سياسي

ما وراء خطاب المظلومية: قراءة نقدية في الرواية الكردية المعاصرة

ما وراء خطاب المظلومية: قراءة نقدية في الرواية الكردية المعاصرة

الخابور -  مهند الكاطع

من حقّ أي مكوّن سوري أن يطالب بالإنصاف، لكن الإنصاف لا يمكن أن يُبنى على سرديات مشوشة، وانتقائية، وتجاهل كامل للواقع المشترك. التقرير المنشور مؤخراً في صحيفة « القدس العربي» ضمن تقرير حمل عنوان «كرد سورية ينتظرون لقاء الشرع ويطلبون حل مسألة الحزام العربي»، لا يخلو من هذا الخلل الثلاثي، الاختزال، الإقصاء والمغالطة. ما يستدعي تفنيداً موضوعياً وموثقاً.

المبالغة الرقمية في قضية المجنسين 

تصريحات فيصل يوسف المتحدث باسم المجلس الوطني الكردي، جاءت في أعقاب ما سُمّي بـ «كونفرانس روجآفاي كردستان» (مؤتمر كردستان الغربية) الذي عقد في 26 أبريل 2024، وشكّل من خلاله المؤتمرون وفداً تفاوضياً ليحمل أجندة وأهداف هذا المؤتمر إلى دمشق. اسم المؤتمر بحد ذاته «كردستان الغربية» يكشف عن نزعة انفصالية، ويتعارض مع هوية سوريا الوطنية وتاريخها، كما يُغفل الخطاب الكردي هنا أن الدولة السورية وقسد، وقعتا فعلاً اتفاقاً رسمياً بشأن تسليم المناطق الخاضعة لسيطرة قسد للدولة السورية، والاندماج في مؤسسات الدولة، ولم يعد المقال حول «التفاوض» بل حول تنفيذ الاتفاق. لذلك لا غرابة بأن ترفض دمشق لقاء وفد يحمل أجندة تفاوض جديد، ومنبثق عن مؤتمر يطلق على محافظات الجزيرة والفرات (دير الزور- الحسكة- الرقة) اسم روجافا، علماً أن الأكراد يوجدون فقط في الرقة بنسبة 3% تقريباً، والحسكة بنسبة أقل من 20%.

مغالطات حول أجانب محافظة الحسكة

من أبرز المغالطات التي وردت في تصريحات يوسف في معرض انتقاده للهيئة العليا للانتخابات، مزاعم حرمان نحو 400 ألف كردي من «المشاركة في الانتخابات»، الذين قال إنهم تمكنوا من «استردادهم للجنسية» السورية بعد عام 2011، وتصوير الأمر برمته على أنه استهداف للأكراد، والواقع أن هذه الادعاءات غير دقيقة. اشتراطات الهيئة في تحديد الجنسية قبل عام 2011 والحديث عن المرشحين لعضوية مجلس الشعب، له مبرراته القانونية والمنطقية، فسوريا كانت كما نعلم ساحة للجيوش والميليشيات الأجنبية منذ عام 2011، ومراجعة ملف المجنسين الأجانب يتعدى موضوع أجانب الحسكة، فالأمر أعمق وأبعد من الأكراد فقط، كما أنه لا يوجد شيء اسمه «استرداد للجنسية»، والصحيح هو «منح الجنسية» الذي جرى ضمن مرسوم رئاسي رقم 49 في 7 أبريل 2011، الذي تضمن «منح الجنسية السورية للمقيدين بسجلات الأجانب في محافظة الحسكة»، في خطوة كان الهدف منها استمالة الأكراد آنذاك، كما أن رقم .000400 المنتهي بأصفار مبالغ فيه كثيراً، ويشكل أربعة أضعاف الرقم الذي أعلن عنه الناطق باسم وزارة الداخلية في مارس 2012، الذي صرح عن تجنيس 105631 نسمة، وحتى هذا الرقم يبدو كبيراً، ويتضارب مع عدد المقيدين في سجلات الأجانب في الحسكة، والذي بلغ حتى صدور مرسوم التجنيس نحو 52258 شخصاً فقط.

ظهرت قضية «أجانب الحسكة» بعد إحصاء عام 1962، الذي جاء نتيجة نمو ديمغرافي غير طبيعي بسبب الهجرات من تركيا حينها. الإحصاء حدث في زمن حكومة الانفصال، واشترطت أن يكون الشخص مسجلاً قبل عام 1945 في القيود المدنية، ومن لم يثبت وجوده وإقامته تم تصنيفه كأجنبي فظهرت قيود الأجانب في الحسكة، وهي مسألة تمت معالجتها أول مرة في 1976 وساهمت في إنقاص العدد إلى النصف، ثم في مرسوم عام 2011 الذي أنهى هذه المسألة.

المطلوب اليوم من القوى الكردية، إن أرادت أن تكون جزءاً من سوريا المستقبل، أن تراجع خطابها، وأن تكون أهدافها متماشية مع البناء الحديث للدولة وتنضم إلى مشروع وطني يضمن الحقوق بالتساوي

المغمورون ومغالطة «الحزام العربي» 

يتكرر في الخطاب القومي الكردي اتهام الدولة السورية بتطبيق «الحزام العربي» الذي اقترحه الملازم محمد طلب الهلال، لتغيير التركيبة السكانية في المحافظة، خاصة عبر توطين عرب «الغمر»، الذين تم نقلهم من مناطق الفرات بعد بناء سد الفرات. ويظهر كذلك في مزاعم يوسف، أن قانون الإصلاح الزراعي أضر بآلاف الأكراد، غير أن الوقائع التاريخية والقانونية تُظهر صورة مغايرة تماماً.

توزيع الأراضي في الجزيرة تم وفق قانون الإصلاح الزراعي لعام 1958، وهو قانون وطني طُبّق على جميع المحافظات، واستهدف تقليص الملكيات الكبيرة. في الحسكة وحدها، خضع للقانون 1063 مالكاً، غالبيتهم كانوا من الملاكين العرب، إضافة إلى بعض الكرد والسريان. وتم توزيع أراضي على آلاف الفلاحين، واستفاد آلاف الأكراد من ذلك، وربما يتطلب الإنصاف أيضاً القول، إن عددا كبيرا من الأكراد حصلوا على قرى كاملة كانت ملكيتها لملاكين عرب. ففي ناحية تل حميس مثلاً، المؤلفة من 223 قرية عربية، مُنح فلاحون أكراد قرى مثل (السعدية، بندوري، الشورى، خراب عسكر، مثلوثة الوسطى، ومجيرينات العمري)، بل إن قرية تل معروف، مركز الطريقة الخزنوية، كانت أصلاً منحة من شيخ طيّ إلى مؤسس الطريقة الكردية.

وبالتالي طلب إعادة النظر في قانون الإصلاح الزراعي، أو ملكية الأراضي لن يقتصر على المغمورين، بل قد تفتح المجال أمام إعادة النظر بملكية الأراضي التي تم توزيعها كذلك على الأكراد وربما يكونون من أكبر الخاسرين.

أما عرب «الغمر» فبلغ عدد أسرهم 4553 فقط، وتم إسكانهم في 41 قرية منشأة حديثاً، جميعها أقيمت على أراضي أملاك الدولة أو أراضٍ أميرية، أو من فائض توزيع أراضي الإصلاح الزراعي. وليست على "أراضي كردية" كما يزعم القوميون الأكراد، كما لم يتم تهجير أي قرية كردية، ولم تُصادر أراضي فلاحين كرد. أما عن مزاعم التأثير على التركيبة الديموغرافية، فيجب أخذ العلم أن إنشاء قرى المغمورين، نُشرت في ثلاث مناطق إدارية رئيسية:

في المالكية، أُنشئت 12 قرية للمغمورين من أصل 216 قرية، بينها 104 قرى كردية، 84 عربية، و20 مسيحية أو مختلطة. في القامشلي، 12 قرية من أصل 423 قرية، منها 141 كردية، و264 عربية. في رأس العين، 17 قرية من أصل 171، منها 88 كردية و62 عربية و21 مختلطة.

المحصلة: 41 قرية مغمورين ضمن أكثر من 1700 قرية رئيسية في هذه المناطق، أي ما نسبته 2.3% تقريبا، وهي نسبة لا تسمح إطلاقاً بالحديث عن «تغيير ديموغرافي»، بل إن هذه المزاعم تُستخدم اليوم لتأطير خطاب قومي متخيّل يُروّج لمظلومية جماعية لا سند واقعيا لها.

تسييس الطفولة وبناء وعي عدائي 

من أخطر ما يفرزه الخطاب القومي الكردي اليوم من وجهة نظري، هو تنشئة جيل جديد على أفكار وخطابات عفى عليها الزمن، وتعتمد على كراهية الآخر، حيث يتم تلقينه منذ سن مبكرة أن العرب محتلون، وأنَّ العرب جاؤوا للاستيلاء على أراضي «كردستان سوريا» أو «روجافا». وكذلك سرديات مشوهة عن الحزام العربي، ويتم خلطها بموضوع المغمورين، رغم التباعد الزمني والوظيفي بينهما. وكذلك تناول حق تقرير المصير ضمن سردية تركز على فكرة أن الأكراد «الشعب الوحيد» الذي لم يحصل على دولة، في تجاهل تام للآشوريين، السريان، التركمان، الشيشان، الأرمن، والغجر، وكلهم شعوب عانت من انعدام التمثيل القومي، بعد انهيار الدولة العثمانية. وحق تقرير المصير، كما ورد في الشرعية الدولية، ينطبق على شعوب خضعت للاستعمار، لا على مكونات ضمن دول مستقلة ذات سيادة.

إن الشحن القومي المبكر يؤسس لوعي عدائي منفصل عن الواقع، ويزرع في عقول الأطفال رواية تستند إلى الخيال، لا إلى التاريخ أو السجلات.

خاتمة: نحو حوار وطني صادق

 ليس المقصود من هذا المقال نفي وجود مظالم تاريخية وقعت على بعض الأكراد في سوريا، بل التأكيد على ضرورة معالجتها ضمن أطر وطنية، لا قومية انفصالية. إن كل محاولة لفرض سردية واحدة على حساب بقية المكونات، هي مشروع لتفكيك الدولة لا لبنائها. نحتاج اليوم إلى خطاب وطني صادق، يعترف بالتنوع، يحترم الوقائع، ويميز بين الحقوق المشروعة والدعاوى المفتعلة. سوريا ليست قطعة قماش قابلة للتقسيم حسب المزاج القومي، بل وطن مركب، لا يُبنى إلا بالتكامل، ولا يُحترم فيه أحد إلا إذا احترم الآخر. المطلوب اليوم من القوى الكردية، إن أرادت أن تكون جزءاً من سوريا المستقبل، أن تراجع خطابها بشكل كامل، وأن تكون أهدافها متماشية مع البناء الحديث للدولة، وأن تكف عن استخدام لغة الاستعلاء القومي، وأن تنضم إلى مشروع وطني يضمن الحقوق بالتساوي، لا بالتحايل على الوعي، والتلاعب بالحقائق.

المصدر : القدس العربي