الخابور - أحمد الشمام

لعلَّ الخطأ القاتل الذي ارتكبته شعوب الربيع العربي، كان اعتقادها أنّها ستفضح بثورتها عسف الأنظمة العربية أمام المجتمع الدّولي، وانتظرت من هذا الأخير أن ينصفها، ولعلَّ التدخل الأمريكي لإسقاط نظام القذافي قد دفعها نحو الثقة والمراهنة على ذلك، والخطأ الآخر لدى النخب التي مثلت الثورة سياسياً في الرهان على أمريكا التي دعمت انقلاب السيسي على الشرعية التي لم ترُق لها بمصر، وعرقلت مخرجات ثورة الشعب الليبي، وهذا يفتح المجال واسعاً على التساؤل عن حقيقة الموقف الأمريكي والغربي عموماً تجاه ثورات الربيع العربي، مع ملاحظة أنّ رأي شعوب الدول الغربية ليس متوافقاً بالضرورة مع سياسات قادتها، وقد يقول قائل إنّ نظام الأسد نجح في أسلمه الثورة، لكنّ الحقيقة أنّ النظام الدولي مشخّصاً بأمريكا كان يعمل بنفس الاتجاه، حيث لم تكن القيادة الأمريكية التي أخذت سياسة النأي عن التدخل المباشر في عهد أوباما ضعفاً؛ بل في موقف إدارة الأزمة والتحكم بمفاعيلها عن بعد.

أمريكا والحل الديمقراطي وحقوق الأقليات:

لايمكن لدارس للسياسة الأمريكية في العراق، والتي اعترفت في الجمعية العمومية بعد سقوط بغداد، أنها تنوء بمسؤولياتها كسلطة احتلال وإدارة البلاد وفقاً لهذا، وهي التي عبرت البحار لإسقاط النظام العراقي، وتحقيق نظام ديمقراطي تعددي حسب جملة المبررات لحملتها تلك، وما لبثت أن تركته ممزقاً وأكثر سوءاً وتخلفاً وتدميراً مما قبل، وأورثته لمحور إيران صاحبة المرجعية الشيعية وولاية الفقيه. ولا يخفى على أحد أنّ دولة دفعت ضحايا من جندها ومرتزقتها لأجل هدف صوري، وهو تحطيم الديكتاتورية وبناء الديموقراطية ثم تملصت منه، ورسخت بذور الشقاق في الشعب العراقي أكثر مما خلفته من دمار في المؤسسات والمنشآت، لايمكن أن تتعامل بمسؤولية تجاه شعب آخر ومطالبه، وهذا ما يذكرنا بالرؤية الأمريكية تجاه الثورة السورية، حيث طالبت بما يمكن تسميته إسقاط النظام على وسادة هادئة عبر الحل السياسي؛ حفاظا على مؤسسات الدولة، لكنّ الحقيقة كانت هي إنضاج التخريب المرسوم له في بنية الشعب السوري، قتلاً وتحزيباً وتنفيراً، حيث كانت الثورة لأجل الحرية وضامنة لكلّ الحقوق، لكنها ظهرت في الخطاب الغربي ومؤسساته باختزالها بحقوق الأقليات وتحرير المرأة، حيث عوّلت أمريكا على إطالة أمد الأزمة بين نظام ينهار ونظام جديد؛ لتنتشر الفوضى. فلعبت دوراً في جعل الحرب التي خيضت على الشعب السوري غير محسومة لأي طرف؛ لإنهاك الجميع ولتفتيت المجتمع عبر تبني سياسة التصريحات المشجعة للثورة من جهة والعمل على محاصرة الجيش الحر؛ لتفتيت جبهة العمل الوطني وتقوية جبهة العمل الإسلامي، مشخّصاً بتنظيم الدولة وجبهة النصرة، حيث كان لابدّ أن يكون هناك غول يكبر ويخافه الغرب لتتدخل أمريكا وتعطي شرعية للفصائل التي تقاتل هذا الغول، وهو عصابة حزب العمال الكردستاني في سوريا، وحرف أنظار العالم عن حقوق شعب ينتهك بالغاز والكيماوي والبراميل في سوريا، مثلما منحت شرعية للفصائل الطائفية الشيعية بالعراق للتغول على الشعب العراقي ومحاربة تنظيم الدولة، واعتبار السنة حاضنة لهذا التنظيم رغم المظاهرات المدنية التي خرجت ضد نظام المالكي، المظاهرات التي تم نسفها والالتفاف عليها ليبقى سنة العراق محصورين بتنظيم الدولة كحامٍ لهم ولو بالقوة!

 لم يستطع العراقيون محاربة تنظيم الدولة خارج إطار التنظيمات الطائفية الشيعية بينما استطاع السوريون محاربة التنظيم، لكنهم لم يتلقوا دعماً أمريكياً ولا تغطية جوية؛ لأنهم ليسوا مشروعها الذي انتظرت أن ينضج ومولته ودعمته بالمال والعتاد وهو مشروع عصابة حزب العمال الكردستاني العميل لنظام الأسد والذي سار بضحايا الوهم القومي الكردي إلى نهج استئصالي هدفه نسف وحدة الشعب السوري بكل مكوناته المتعايشة تاريخياً، ولعلّ الفكرة الأساس التي تعتمدها السياسة الأمريكية تنطلق من نقطتين مهمتين:

الأولى أنّ المشروع الشيعي منضبط وقابل للتحكم به من خلال لعبة عضّ الأصابع مع مرجعيته الإيرانية عبر ملفات دولية محددة، وفي حال انفلاته في أسوأ حال لا يحتوي ضمن أسسه جهاداً ضد أمريكا، وهذا ما رأته بأمّ عينها في العراق، وأفغانستان.

والثانية أنه لابدّ من وجود قوة مؤتمرة بأمرها يمكن أن تلعب دور إسرائيل المتحركة، وهو ما أسسته في الكيان الكردي بشمال العراق وما ترسمه الآن في شمال سوريا، وليس غريباً ولا مخالفاً للسياسة الأمريكية ألا تدعم انفصال شمال العراق؛ لأنها لعبت وتلعب على منطق العصا والجزرة حيث بوجود كيان فدرالي يحلم بالانفصال ستقوم هي باستغلاله بهذا الحلم ليقوم بدور متحرك بقواته وأدبياته وتحزيباته، ناهيك عن دور قوات البيشمركا الكردية في الموصل وغيرها في حربها مع تنظيم الدولة كقوة مشاركة تحت الغطاء الأمريكي فيما سمته الحرب على الإرهاب، ودور إسرائيل المتحركة الثاني في شمال سوريا عبرعصابة قوات قسد ذات القيادة العمالية للتحرك في مختلف أرجاء سوريا شرق الفرات، ممّا يعني أنّ الخطة الأمريكية هي إنشاء كونتون فدرالي يحلم بالانفصال يبقي على مصالحها الآنية في النفط والغاز ويأتمر بأمرها، مدفوعاً بهذا الحلم ويقدم الضحايا كبديل عن أي خسائر أمريكية، وحريٌ بالذكر أنّ أمريكا قبل عامين وأثناء التحضير الطويل لتحرير الرقة من قبضة داعش، قد تواصلت مع قوى هامّة من الجيش الحر من ثوار الرقة وممّن يمتلكون رصيداً اجتماعياً وثورياً وعشائرياً مهمّا في ضبط الرقة وبرامج إدارتها مدنياً، لكنها اشترطت عليها العمل بإمرة عصابة قسد، فرفضت هذه القوى فتم استثناؤها من العمل، تثبيتاً للهدف الاستراتيجي البعيد، وهو تفتيت أو تطييف العرب السنة ودفعهم لأن يكونوا طائفة أو قومية، بدلاً من أمة حاضنة تشكل متناً لأيّ تحولٍ سياسيٍّ واجتماعيٍّ ذي بعدٍ وطني تاريخي، ناهيك عن المصلحة الأميركية في تقويض الدولة التركية التي بات وجودها وازناً ومرجّحاً في محورٍ سنّيٍّ غنيٍّ بكل احتمالات مقاومة المشروع الغربي الاستعماري تاريخياً، وتقويض المشروع الصهيوني في السيطرة على المنطقة برمتها.      

المصدر - مجلة الرحى