الخابور - عبدالحميد العواك

منذ بداية الثورة والوثائق تصدر تباعاً وكأنَّنا في سباق محموم لإصدار وثائق تُعبِّر عن وجهة نظرنا، وهذا طبيعي لشعب حُرم من التعبير عن وجهة نظره، ولكن بعد كل تلك السنوات يجب الانتقال إلى الضفة الأخرى ومعرفة ما لديها ليس بغرض النقد، بل بغرض البناء على نصوص وحلول توافقية.

وآخر تلك الوثائق صدرت عن (مركز حرمون للدراسات المعاصرة) بعنوان: "مشروع وثيقة توافقات وطنية" وهي وثيقة تمَّ تصنيفها بأنَّها (مشروع متكامل) وتطمح أن تكون سفينة نجاة تحمل خشبة الخلاص للسوريين، إذ عُقد لأجلها 26 جلسة حوارية على مدى 13 شهراً، نوقشت فيها 12 قضية منها ما هو خلافي، وشارك 186 سوريًا في الحوار.

و(مركز حرمون) مشكوراً يطرح هذه الوثيقة للحوار والمناقشة، لكنني في هذا المقال لا أريد الدخول في مضمون الوثيقة؛ لأنَّ كل نقطة وردت تحتاج إلى وقفة مطولة، غير أنه من المناسب الوقوف عند الإطار العام فقط!

ننطلق من عنوان الوثيقة "توافقات وطنية" إذاً هناك إقرار بانقسامات داخل المجتمع السوري، وهي حقيقة واقعية، فالمجتمع السوري يعاني من انقسام عمودي يتمايز الناس فيه تبعًا لهوية يرثونها من آبائهم، مثل انتماء الفرد إلى دين، أو قومية، أو قبيلة، أو جنس. ومن انقسام أفقي، حيث يتمايز الناس تبعًا لهوية يكتسبونها باختيارهم، مثل انتماء الفرد إلى حزب، أو حرفة، أو أيديولوجيا..

غير أن الإقرار بهذين الانقسامين لا يكفي، ما لم تكن هناك حلول توافقية، فهل استطاعت الوثيقة أن تتناغم مع عنوانها وتحقق ذلك؟

حيادية مراكز الدراسات ومسؤوليتها

في ظل غياب الأحزاب الفاعلة والمؤثرة في المجتمع السوري المعاصر، تتضاعف مسؤولية مراكز الدراسات في القيام بالتنشئة السياسية والاجتماعية، وتقريب وجهات النظر، لأنَّ تحقيق التنمية السياسية في المجتمع يعني بالضرورة حلّ الأزمات التي تواجه النظام السياسي، والتي تعدّ من أبرز سمات التخلف السياسي، وهي (أزمة الهوية)، التي يترتب عليها غياب الولاء للوطن، و(أزمة الشرعية)، التي تعني عدـم قبول المواطنين بالنظام الحاكـم، و(أزمة المشاركة) التي تدل على تغييب الناس عن مسرح العملية السياسية.

لذلك تعمد مراكز الدراسات لخلق ثقافة جديدة وذلك بإدخال أنماط جديدة من الثقافة السياسية القائمة، لأنَّ مجتمعات ما بعد النزاع تحتاج دورًا فعّالاً إيجابيًا في تهيئة الظروف الملائمة التي من شأنها خلق مناخ يسوده السلم ونبذ العنف وعدم تكرار التجارب الماضية المؤلمة، لأنَّ مرحلة ما بعد النزاع تحتاج أفكارًا جديدة غير مطروقة سابقًا من النظام ولا من أطياف المعارضة، بل تحتاج أفكارًا إبداعية تنبع من المجتمع وتعود إليه بصياغة يرتضيها الجميع.

لذلك ما كنَّا ننتظره من الوثيقة هو إبداع توافقات جديدة، بحيث يجد الجميع نفسه فيها، لكن الحقيقة المرة أنَّ الوثيقة عبَّرت عن وجهة نظر أحادية واضحة لكل سوري، ومن السهل جداً أن تتبنى وجهة نظر فريق وتعرضها في دراساتك، وهذا ما فعلته الوثيقة، ولكن الصعوبة تتأتى في جمع المتناقضات بنص واحد يرضى به الجميع، وهو ما لم تفعله الوثيقة.

ولأنَّ الشجاعة لا تأتي بطرحك لوجهة نظرك بقوة، بل تكون بالاستماع للمختلف عنك بشغف موصول برغبة بإنتاج الحل، ومركز الدراسات ليس حزبًا سياسيًا يعرض وجهة نظر واحدة ويسوّق لها، بل هو منظمة حيادية، وصفة الحيادية قادمة من صفة الباحث والبحث العلمي، لذلك هو أقدر على تقديم الحلول للإشكاليات المزمنة والمستعصية.

إن الذي يريد أن يسهم في الحل عليه أن يبتعد عن إقصاء الآخرين، وألَّا يتذاكى في تلك اللعبة "لأنَّ لعبة الذكاء بين الأذكياء ضرب من الغباء" ولا سيما لدى سوريين أصبحوا خبراء في فنون الإقصاء،  على امتداد زمني عايشوا فيه "نظامًا" مارس أشدَّ صور الإقصاء وأعنفها، وبكلِّ مكر كان يعطي الآخرين في وثائقه جوائز ترضية، لا قيمة لها على أرض الواقع، وهو ما لم تفلح به الوثيقة فامتنعت حتى عن تقديم جوائز الترضية للآخر.

أول مراحل التغيير هي الوعي بالواقع السوري الذي يختلف عن غيره، وهذه سمة طبيعية في المجتمعات، إذ ليس هناك مجتمع ديمقراطي واحد، بل هناك مجتمعات ديمقراطية متنوعة، وفق ما قررته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في معظم قراراتها.

ودراسة تاريخ الأمم تعلمنا أنَّ المجتمعات القوية بدأت قوتها بتأسيس المشتركات بينها وإبداعها في ذلك، وليس في استجرار تجارب الآخرين، أو تجاهل المختلفين معها بالرؤية، من يقرأ وثائق التأسيس الأميركي والثورات البريطانية وتطورات فرنسا منذ الثورة حتى اليوم، يدرك كيف يكون البناء على المشتركات وخلق وإبداع الحلول، وليس التسابق والتذاكي في صناعة وجهة نظر أحادية وتجاهل الآخر، وهنا أعني به جميع من صنع الوثائق من السوريين، في استعراض الوثائق السابقة لا نجد صياغة تجمع المتناقضات وترضي الأطراف ويجد الجميع نفسه بها.

آلية صناعة وثائق التوافقات ما بعد النزاع

إذا كان التصور التقليدي لمفهوم النزاع هو (ربح-خسارة) فإنَّ خبراء حل النزاعات المعاصرين يركزون على المبدأ الأنسب الذي هو (ربح-ربح) من خلال التعاون بين الأطراف المتنازعة ومراعاة مصالحهم والبحث عن الطرق التي تلبي هذه المصالح حتى يقبل بها كل الأطراف.

كان يجب أن تركز "وثيقة التوافقات الوطنية" في هذه المرحلة على صياغة تقلل من التوتر وتُعيد للعلاقات الاجتماعية والسياسية استقرارها، وتُبعدها عن الاستقطاب الحاد، لأنَّه في غير ذلك لن يقف السلوك العنيف في المجتمع.

نعم يمكن أن تؤثر الثقافة السائدة على مستقبل سوريا، لكن يقع على عاتق مثل هكذا وثائق التركيز على حل المشكلات، والمضي نحو علاقات مستقبلية طيبة مبنية على التوافقات، هذا البناء لا يتم في استجرار مفاهيم سائدة ومعلبة وجاهزة، بل في إبداع حلول جديدة وأفكار غير مسبوقة.

حتى ننتقل من إطار النقد إلى اقتراح الحلول لهندسة سياسية لإنتاج وثائق التوافقات

أول الخطوات هي أن نُؤمن أنَّ جميع الأفكار السابقة "المنفردة" كانت جزءًا من الإشكالية ولا تصلح بفردانيتها لأن تكون جزءًا من الحل، لذلك فإنَّ البناء على منظومة قيمية سابقة سواء كانت للنظام أو لجزء من المعارضة هو بناء من رمل وعلى رمل سرعان ما يتهدم.

 

حري بالجهة المبادرة لإنتاج وثيقة توافقات، مركز حرمون في حالتنا هذه، ألَّا تدعو للحوار جهة واحدة بل دعوة جميع من يمتلك وجهة نظر ويدافع عنها وتكون المرحلة الأولى من الحوار بتدوين جميع الآراء وفرزها إلى مجموعات، وفي المرحلة الثانية يدافع كل فريق عن أفكاره أمام الآخرين المستمعين له، أما المرحلة الثالثة فتخصص لنقد كل فريق للآخر، وفي هذه المراحل الثلاث تحافظ الجهة الداعية على حيادها ووقوفها على مسافة واحدة من الجميع. أما المرحلة الأخيرة وهي الأصعب فيظهر دور الجهة المبادرة في صياغة التوافقات، واقتراح الحلول الممكنة التطبيق، وتجسير الهوة بين الأطراف، وفي حال عدم الوصول لنص توافقي تعرض وجهات النظر المتباينة، وهذا درو المركز الريادي. وعلينا أن نعلم جميعاً أن دساتير ما بعد الصراع تقترح حلولًا ولا تجتر مبادئ سابقة من دول أخرى، هكذا فعلت أميركا وفرنسا وبريطانيا وسويسرا؛ لأنَّ هذه الدول تعلم جيداً أنَّ الدساتير أكثر أهمية من تشكيل الحكومات، وتنظيم العلاقات بينها وبين المواطنين، فالدساتير أدوات مهمة لإدارة الأزمات والمصالحة بين الجماعات والمجموعات الأيديولوجية ومعالجة الظلم غير المقبول.

المصدر : تلفزيون سوريا