الخابور ـ ثائر المحمد

بدت جريمة جنديرس بريف عفرين شمالي سوريا بحق أربعة مدنيين أكراد في الأسبوع الماضي، وكأنه قد خُطط لها مسبقاً، بالنظر إلى الأحداث التي تبعت الجريمة، من توجه ذوي الضحايا إلى مناطق سيطرة "هيئة تحرير الشام" في إدلب ومطالبتهم لها بمحاسبة الجناة، والحضور السريع لقائد الهيئة أبو محمد الجولاني وتعهده بمتابعة القضية، ثم الانتشار العسكري الكبير لعناصر تحرير الشام في جنديرس وسيطرتهم على مواقع عسكرية ومؤسسات داخل المدينة في حرف واضح للقضية عن مسارها.

رغبة "هيئة تحرير الشام" في استثمار الجريمة للتوسع في مدينة جنديرس والقضاء على خصومها كان لافتاً منذ اللحظات الأولى، فبدأ إعلامها غير الرسمي في التحريض على فصائل حركة التحرير والبناء ضمن الجيش الوطني، والتلميح إلى فشل مؤسسات القضاء والشرطة بريف حلب الشمالي في إلقاء القبض على القتلة أو الاقتصاص منهم، ما فتح الباب للحديث عن مكيدة دبّرتها الهيئة لشرعنة القضاء على فصائل محددة ضمن الجيش الوطني.

اندفاع الهيئة وحماسها للتحقيق في ملابسات الجريمة وتصدر المشهد بدأ يتلاشى بعد 24 ساعة فقط من الحادثة، وفسّر مناهضون لـ "تحرير الشام" انسحابها من المشهد تدريجياً بأنه جاء استجابة لأوامر تركية، لا سيما أن "حركة التحرير والبناء" تمكنت من قطع الطريق عليها في استغلال الحدث، من خلال إلقاء القبض على المجرمين وتسليمهم للشرطة العسكرية والقضاء، ومع ذلك بقيت التساؤلات حاضرة، هل دبّرت الهيئة تلك الجريمة لتحقيق أهداف محددة في مناطق سيطرة الجيش الوطني؟ أم أن تدخلها كان من باب توظيف الحدث لمصلحتها وتحقيق ما أمكن من المكاسب مستفيدة من الغضب الشعبي والمطالب بمحاسبة الجناة، وملء الفراغ الناجم عن غياب الحكومة السورية المؤقتة ومؤسساتها؟

أحداث متسارعة بعد الجريمة

بعد ساعات قليلة من مقتل 4 مدنيين أكراد في مدينة جنديرس على يد مسلحين، إثر خلاف مع المغدورين الذين كانوا يحتفلون بعيد النيروز عبر إشعال النيران أمام منازلهم، توجه ذوو الضحايا إلى بلدة أطمة الخاضعة لسيطرة "هيئة تحرير الشام"، مطالبين الأخيرة بالتدخل لمحاسبة مرتكبي الجريمة.

وانتشرت فيديوهات مصوّرة تظهر أفراداً يتظاهرون في بلدة أطمة - قيل إنهم مدنيون أكراد - ويهتفون "بدنا الهيئة، بدنا الهيئة"، كما اجتمع وفد من أهالي جنديرس، مع قائد هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني، والقياديين في الهيئة "أبو ماريا القحطاني"، و"أبو أحمد زكور".

وظهر الجولاني بين جموع المدنيين خلال تجمهرهم وسط بلدة أطمة، والتقى بذوي الضحايا، وخاطبهم بالقول: "هذا آخر يوم تتعرضون فيه لاعتداء، أنتوا بحمايتي إن شاء الله، وستعودون إلى بيوتكم معزّزين مكرّمين"، لترد إحدى النساء قائلة: "ما بدنا فصائل، ما بدنا فصائل".

وفي صباح اليوم التالي شهدت مدينة جنديرس انتشاراً أمنياً مكثفاً لـ "هيئة تحرير الشام"، مع انتشار أنباء عن سيطرتها على مقار عسكرية تابعة لـ"جيش الشرقية" (أحد مكونات حركة التحرير والبناء)، وفرع الشرطة العسكرية في المدينة.

لم يتأخر الائتلاف الوطني السوري بالتعليق على الحادثة، إذ أشار إلى أنه وجّه الحكومة السورية المؤقتة والجيش الوطني للتحقيق ومتابعة تفاصيل الجريمة على أعلى المستويات للقبض على المجرمين ومحاكمتهم، مضيفاً أن ما حصل حادثة استثنائية، وأن الاحتفال بعيد النيروز يتم في كل عام في مناطق الكرد شمال غربي سوريا من دون أي قيود أو عقبات.

وفي خضم التحريض الإعلامي على "حركة التحرير والبناء"، قال القيادي في "تحرير الشام" أبو ماريا القحطاني، إنّ "الأكراد جزء من هذه الأمة ونصرة المظلوم واجبة، ولا بد من محاسبة المجرمين، فكل من في المحرر هم شعب واحد، وعلينا واجب شرعي وأخلاقي أن ننتصر للمظلوم ونأخذ على يد الظلم، الظلم يفني أمما ويهدم دولا (...) لم أجد أصعب من أن يأتي إخوانك وهم يحملون جثث قتلاهم ويطلبون منك النجدة والنصرة، ونسأل الله تعالى أن يعيننا على نصرتهم وإنصافهم".

تشكيك في نوايا "تحرير الشام"

قوبل تدخل "هيئة تحرير الشام" في القضية باتهامات من قبل بعض المناهضين لها بتدبير الجريمة، بينما رأى آخرون أن الهيئة تحاول استغلال الجريمة من أجل تحقيق مكاسب مختلفة، منها إنهاء نفوذ "حركة التحرير والبناء" على معبر الحمام الحدودي مع تركيا، وتعبيد الطريق أمامها للتوسع في المنطقة، كون مدينة جنديرس تعد البوابة الجنوبية لمنطقة عملية "غصن الزيتون".

السلفي المناهض للهيئة، أبو حمزة الكردي، قال في منشور على قناته في تلغرام: "لطالما تاجر المنتكس بقضايا الأمة على مدار سيرة حياته، فمرة يتاجر بالمجاهدين وتارة بالمهاجرين وتارة بأهل السنة وتارة بالمدنيين وتارة بالثوابت وتارة بالمصلحة والمفسدة.. واليوم يتاجر بقضية الأكراد، بينما هنالك الكثير من المجاهدين الأكراد في الشام إما في سجونه المظلمة أو بين مطارد وملاحق.. وما أخبار سجن الأكراد في أنصار الإسلام وغيرهم عنا ببعيد".

من جهته ذكر القيادي السابق في هيئة تحرير الشام "أبو العلا الشامي" أن "الجولانيّ الذي يصوِّر نفسه كذباً وخداعاً ومتاجرةً على أنَّه حمامة سلامٍ وحامي الأقلِّيَّات وأمل الطَّوائف في إدلب وشمالي حلب ليفوز بوكالةٍ حصريَّةٍ أو اعتمادٍ مفضَّلٍ من الخارج، هو نفسه الذي يهدِّد الأطفال بالويل والثُّبور وعظائم الأمور بسبب هتافاتٍ من حناجرهم المقهورة تنبع من أفئدتهم المكلومة من فقد آبائهم".

بينما أشار الباحث عبد الوهاب عاصي، إلى أن "الجولاني الذي قدّم الدعم والحماية للفصائل المتهمة بارتكاب جريمة أبو غنوم (في مدينة الباب) من أجل إيجاد المبرر لدخول عفرين لن يصعب عليه دعم وحماية عناصر ومجموعات نشطة في فصائل أخرى لارتكاب جرائم مماثلة لدخول جنديرس بعدما اضطر للخروج منها".

لماذا تدخلت "تحرير الشام" بقوة؟

بعد مضي أقل من 24 ساعة على وقوع الجريمة، أعلنت "حركة التحرير والبناء" عن إلقاء القبض على 3 متهمين بقتل 4 مدنيين كرد في مدينة جنديرس، وتسليمهم لقيادة الشرطة العسكرية. وظهر في بيان الحركة المصور المتهمون عمر صالح الأسمر - مواليد عام 2000، وحبيب علي خلف - مواليد عام 2004، وبلال أحمد العبود - مواليد عام 2000.

مصادر من داخل الحركة ذكرت أن هيئة تحرير الشام حاولت "التسلق على الجريمة من خلال لقاء زعيمها أبو محمد الجولاني بذوي الضحايا ووعوده بإلقاء القبض على المجرمين؛ في حين كانت حركة التحرير والبناء تتابع مجريات القضية والتحقيق بها من دون أي استعراضات إعلامية".

وقال رئيس "الحركة" العقيد حسين الحمادي في تصريح خاص لموقع تلفزيون سوريا، إن هناك من أراد أن يستغل هذه الجريمة، ويضعها في غير سياقها، مضيفاً "فمنذ تمكن الفصائل من السيطرة على منطقة "غصن الزيتون"، عملنا على تهيئة الظروف للاحتفالات الدينية والقومية، وتأمين الحماية الكاملة والمشاركة في هذه الاحتفالات، ونتعهد بمتابعة حيثيات هذه الجريمة لتقديم كل متورط من الجناة إلى القضاء لينالوا جزاءهم العادل".

وبحسب عضو المكتب السياسي لحركة التحرير والبناء، زياد الخلف، لم يتبين إلى الآن ما إذا كانت الجريمة مدبرة، لأن التحقيقات مستمرة ولم يُفصح عن تفاصيلها، وقال الخلف في حديث مع موقع تلفزيون سوريا: "منذ الساعات الأولى للجريمة ومن خلال المعطيات التي جرت ومنها مجيء الجولاني شخصياً لاستقبال أهالي الضحايا ونقل الجثامين إلى أطمة، تولد لديّ اعتقاد أن الأمر لم يكن مصادفة إنما كان مدبراً".

ومن وجهة نظر الخلف، فشلت الهيئة في الاستفادة من الحادثة، قائلاً: "من دون أي شك، كانت عين هيئة تحرير الشام منذ دخولها الأول إلى منطقة جنديرس على معبر الحمام الحدودي مع تركيا، حيث أرادت السيطرة عليه، لكن مقاومة الحركة لها حالت دون ذلك".

ولفت إلى انخفاض وتيرة تهديد الهيئة بمحاسبة القتلة بسبب قطع حركة التحرير والبناء الطريق عليها، من خلال إلقاء القبض على الجناة، وتسليمهم للمحكمة العسكرية من أجل التحقيق في دوافع الجريمة، مضيفاً أنه "بهذه الحالة فشلت الهيئة في محاولة الاستفادة من الجريمة".

هل كانت الجريمة مدبرة؟

لم تؤكد "حركة التحرير والبناء" أو غيرها من الفصائل أو المؤسسات العسكرية والقضائية بريف حلب الشمالي أن جريمة القتل كانت مدبرة من أحد الأطراف لاستغلالها لصالحه، فقد أوضح قائد "التحرير والبناء"، أنه "حسب المعطيات المتوفرة لدينا، بدأت الجريمة بملاسنة بين الطرفين، وتطورت إلى شجار وضرب بالأيدي والحجارة، وهذا يدل على أنه في البداية لم يكن هناك سلاح، ولم يكن هناك شيء مبيت لدى الجناة".

كما أكد أنه ومن خلال حيثيات الجريمة تبين أن دوافع القتل كانت انفعالية ولم تكن بدوافع عنصرية أو تطرف، وهذا الوصف يمكن أن يقود إلى أن الجريمة هي جنائية الوصف بامتياز.

ويؤكد عضو "رابطة أهل العلم في الشرقية" عبد الله الشيباني أن الجريمة غير مدبرة بحسب التحقيقات الأولية التي تشير إلى حدوث مشكلة بين الطرفين ليلة 21 من شهر آذار الجاري، بسبب إشعال المغدورين للنار على منقل، فطلب منهم الجناة إطفاء النار لئلا يلحق الضرر بالخيم العشوائية المستحدثة بعد الزلزال الذي ضرب المنطقة، فرفض المغدورون الطلب وحصلت ملاسنة على إثرها عمد أحد الجناة إلى سلاح والده وقام بإطلاق النار ما تسبب بمقتل المغدورين الأربعة.

وأشار الشيباني إلى أن التحريض على حركة التحرير والبناء ليس وليد اللحظة كما أنه تحريض على كل مكونات الجيش الوطني ومؤسسات الثورة من شرطة وقضاء ومجالس محلية، والغرض من ذلك "واضح في إظهار فشل الإدارة المحلية للمنطقة".

كما أن تواجد التحرير والبناء في مواقع حساسة في منطقة جنديرس يجعل من الحركة هدفاً للإسقاط والتحريض، بحسب الشيباني، الذي اعتبر في حديث مع موقع "تلفزيون سوريا" أن النقطة المفصلية تكمن في اعتقال حركة التحرير والبناء للجناة خلال 24 ساعة، علماً أنهم ليسوا منسوبين إلى الفصيل وفق ما ذكر بيان الحركة في بداية الجريمة، ذلك في الوقت الذي استنفرت فيه "تحرير الشام" لتفوز بسبق اعتقال الجناة وتكسب مزيداً من الدعاية والإعلان لها.

تقودنا المعطيات السابقة للقول إن الجريمة لم تكن مدبرة من قبل "هيئة تحرير الشام"، لكن ذلك لم يمنع الهيئة في الوقت نفسه من تصدر المشهد وفرض نفسها بقوة كطرف معني بشكل مباشر بما يجري في مناطق سيطرة الجيش الوطني شمالي حلب، خاصة أن الهيئة اشتهرت خلال الأشهر الماضية في اقتناص الفرص لبدء الحملات العسكرية ضد الفصائل الأخرى، وهو ما حدث عند استغلال الهيئة لهجمات الفيلق الثالث على فرقة الحمزة، وأحرار الشام - القطاع الشرقي، من أجل تقويض نفوذه.

كما تؤكد الأحداث الأخيرة أن الهيئة ما زالت متغلغة بكثافة في عفرين وريفها، سواء كان من خلال قواتها الرسمية، أو عبر أدواتها، في انتظار المزيد من الفرص لتوسيع نطاق السيطرة خغرافياً وفكرياً وإدارياً على حساب نفوذ الجيش الوطني.

المصدر: تلفزيون سوريا