الخابور - ماجد الديري

قال أبي: "فُكِّي النضيدة(١)، إنهم ضيوف من حلب" فتأهبت أمي فتحركت الدلة الموشومة على جبينها عند أعلى ملتقى العينين دلالة على الموافقة برضا تام بالأمر، وتراكضنا إلى الغرفة.

كنا أربعة أطفال، شبكنا أيدينا خلف ظهورنا بانتظار اللحظة التي سنرى ما تحمله تلك الدكة الخشبية التي تتصدر عرض الغرفة وتكاد تلامس السقف في ارتفاعها وما سيطل علينا من خلف تلك الستارة القماشية العريضة التي دُكت من كل أطرافها بعناية لتحفظ ما وراءها من فراش، وما إن أزاحتها أمي حتى أطلت تفاصيل وجه النضيدة بألونها كفارس أماط اللثام عن وجهه تأهّباً للحظة منازلة عظيمة، آنها قفز برأسي الصغير تفسير كبير لرمزية النضيدة في الجزيرة السورية.

النضيدة تذهب إلى أبعد من هذه الصورة المشوقة التي خامرتنا ونحن صغار، فهي تغوص بعيداً في تاريخ المجتمع هناك، إذ ترتبط ارتباطاً وثيقاً في إبراز أهم صفات العرب التي تستلزم إقداماً مفرطاً للتعبير عنها في أجَلِّ صورها، وهي صفة الكرم. وبمفهوم المخالفة، فإنّ الذين لايجودون بما تحتويه نضائدُهم حين تحضر دواعي الحاجة لها؛ مثلاً عند قدوم الضيوف، أو في النوائب، يوصمون بعار البخل حتى يصبح فعلُهم مرهقاً معنوياً لأجيال.

فيما بعد، اكتشفت في رحلة الحياة وتقدم عملية جني الخبرات من الأحداث، أن النضيدة تأخذ صيغة دليل يستند إلى بناء الحياة الاجتماعية على العطاء المبارك، وأنها تمثل فارقة معنوية بطعم خلاصة الكرم الذي يفتخر به أبناء محافظات ثلاث تترامى قراها ومناطقها بين الفرات ودجلة، هي (ديرالزور، والحسكة، والرقة).

قد لا يتصور أحد عن مجتمع الجزيرة حين تُزف عروس من قرية إلى أخرى، أو من  منطقة إلى أخرى، أن قرية أو منطقة أهل العريس يتحدثون عن النضيدة وما تحتويه من لُحُف ودواشك ومفارش وبطانيات ووسائد منقوشة بالحرير، أكثر من حديثهم عن جمال العروس نفسها. ولأهمية الصورة المعنوية التي تقدمها النضيدة عن كرم أهل العروس، فإنّهم يخصصون امرأة من قريتها، ترافقها فقط لتقوم بترتيب النضيدة في غرفة العريس، لتكون بشكل يجذب الأنظار بما يليق برسالة الكرم من أهلها.

امتداد الزمن وتطور الحياة لم يرهق النضيدة إلى الدرجة التي تضطر به إلى خلع معناها الموسوم بكرم أصحابها، فحين انتهى زلزال 2023 بكارثة متعددة الأشكال في شمال سوريا، ولفظت الناجين من بيوتهم إلى العراء، استيقظ في أبناء الجزيرة المعنى الشجاع للنضيدة، التي فعلاً أصبحت أغلى وأثمن ما يحتاجه الإنسان الذي يتعرض جسده وأجساد أطفاله لسياط البرد العاتي، فسارعت نساء الجزيرة ورجالها في هذه اللحظة التاريخية إلى تحميل النضائد في سيارات وإرسالها لأهلهم المنكوبين في شمال حلب، فكانت التعبير الصامد بوجه الكارثة كصرخة سورية، من (ديرالزور والحسكة والرقة ورأس العين وتل أبيض و منبج ، ...) عابرةً كلَّ الحواجز التي وضعها العابثون لتمزيق الوطن المنكوب أصلاً بنظام مجرم لايقيم لحياة الناس أيَّ وزن.

نقول لأهلنا في لحظة الشتاء القارس هذه: نرجوكم، تلذذوا بالدفء يا أهلنا، لترفعوا عنا خجل استطاعتنا، في الوقت الذي نؤمن بأنه لو كانت الكارثة في الجزيرة لسارعتم بكل حضارة السوريين إلى ما تملكون، ولوصلتنا ظلال زيتونكم وسجادكم والمعاطف وكل ما من شأنه أن يخفف عنا المصاب ويمسك حياتنا.

------------------------------------

النضيدة: مجموع الفراش الذي يستخدم للنوم محمولاً على منضدة من الخشب.