الخابور - ياسر الفرحان

سنوات عشر مرّت منذ أن صدر واعتُمد بيان جنيف مرجعيةً للعملية السياسية في سوريا، إليه استندت كافة القرارات الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العمومية، ومن أجل تحقيق مقاصده ومضمونه عُقدت – دونما نتيجة - عشرات الجولات التفاوضية والاجتماعات السياسية والمؤتمرات الدولية والسورية، وبالرغم من أن مؤسسات المعارضة عبرت في البداية عن تحفظها على إمكانية الاتفاق مع مجرمي الإبادة، قبلت به، وانخرطت بإيجابية في مساراته، تماشياً مع التوجهات الدولية من جهة، وكيلا تُضيِّع أية فرصة محتملة تنهي معاناة الشعب السوري من جهةٍ ثانية. 

 

وبينما تبنت غرف الموك والموم فصائل المعارضة المسلحة، ودعمتها بالمال والسلاح والعتاد والذخيرة، فرضت الإدارة الأميركية استراتيجية تمنع الحسم العسكري، تحافظ من خلالها على توازن نسبي في حالة لا غالب ولا مغلوب، وبحجة الضغط على الطرفين للجلوس على طاولة المفاوضات، لم تسمح للنظام بالإجهاز على المعارضة، مثلما لم تسمح للمعارضة بأن تنتصر، الأمر الذي أنتج إطالةً في أمد الصراع، استنزف كافة الأطراف، ومزيداً من التدمير والتقتيل سببه التدخل العسكري الروسي، بصمت أو تخاذل دولي.

 

السوريون مع مشاعر الإحباط التي تخيم عليهم، تنهض في كل محطة لديهم الإرادة، ليعبروا رغم قسوة معاناتهم عن تمسكهم بشكل الحل العادل، نعم الحل العادل الذي عبّروا عنه بدايةً في مظاهراتهم بهتافهم "يا بـشار بـاي بـاي، نـشوفك فـي لاهـاي" أحد أعمق الغايات التي صدحت بها حناجرهم، يرسمون من خلالها رؤيتهم لشكل الحل العادل، بمطالبة المجتمع الدولي بإحالة الملف إلى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، اليوم وبعد أحد عشر عاماً ما زالوا ينشدون العدالة في طريقها الطويل، المتعثر بطبيعته، المأمون بنتيجته، إذا ما حَسُن استخدام أداوته.

 

الناشطون السوريون والشهود لم يألوا - منذ 2011 – جهداً في توثيق الحقيقة، ونشرها، وإيداعها لدى الأمم المتحدة، يَشقُّون بذلك طريق الإنصاف والمحاسبة، المعبّد بجهود الحقوقيين السوريين الذين اجتهدوا في تطوير مهاراتهم حتى باتوا خبراء مختصين في بناء الأدلة وتحضير التقارير والمذكرات والبلاغات وفقاً للمعايير الدولية، والضحايا نضجت تجربتهم بتشكيل روابط وتجمعات لهم، تَعزَّز الوعي لديهم بأهمية دورهم المحوري في نهج الحل، وأضحوا أكثر وصولاً إلى أطراف المجتمع الدولي، ليفرضوا مع الناشطين والحقوقيين والخبراء كتلة ضاغطة لا يمكن لأي طرف تجاوزها في أية معادلة.

 

يعيق محاولات إعادة تأهيل الأسد أو التطبيع معه حجم الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة بحق المدنيين من قبله، ومع آلاف الأدلة المثبتة بتقارير دولية، يبني النظام استراتيجته للإفلات من العقاب على خلط الأوراق، باتهام باقي الأطراف بالانتهاكات الجسيمة ذاتها الممارسة بشكل ممنهج من قبله، مستفيداً في ذلك من حالة الفوضى في مناطق المعارضة، ومن فشلها في إتمام حوكمة مؤسساتها، ومن الارتكابات المتكررة لدى بعض – وليس جميع - قيادتها، وحيث تعمل لجان التحقيق الدولية بشكل مهني وفقاً لما يصلها من معلومات، يبني الأسد على تقاريرها الموجزة في تصريح باولو بنييرو "ما من أيدي نظيفة في سوريا" فيأمل الولد تكرار تجربة أبيه بإغلاق ملفات المحاسبة في لبنان، من خلال اتفاق الطائف والتفاهمات المشينة المبرمة آنذاك بين الأطراف المتورطة.

لكن هيهات، فالفضيحة في سوريا اليوم لا يمكن تطويقها، عائلات الضحايا بوصفهم ضحايا مع الناجيات والناجين والمهجرات والمهجرين والمدمرة بيوتهم يفوق عددهم التوقعات، وهم رغم معاناتهم يعبرون في كل مرة عن عمق رؤيتهم وصلابة إرادتهم، هم الكتلة الأكثر عدداً والأوسع انتشاراً والأقوى صوتاً والأحق مطلباً، وأي اتفاق يتجاوزهم لن يكون مقبولاً لديهم، لن يكون قابلاً للتطبيق من قبل غيرهم.

أمهات المفقودين وزوجاتهم وأخواتهم وبناتهم وعائلاتهم يقدر عددهم وفقاً لتقديرات منطقية بثلاثة ملايين، جميعهم ضحايا لجريمة إخفاء أبنائهم المستمرة، وبينما ما زلوا يعيشون الموت البطيء، قلقاً وأسىً ولوعة، يترقبون في مبادرات التقارب أو التفاوض مع الأسد، أثر ذلك على فلذات أكبادهم، وأكثر ما يجرحهم غياب المطالبة بهم عن أولويات من يحبون، زيارة المديرة الإقليمية لليونيسف وزير خارجية النظام الشهر الفائت تثير السؤال حول إذا ما كانت قد طالبته بأطفال الدكتورة رانيا عباسي الستة وبآلاف مثلهم مخفيين في سجون الأسد، الابتسامات المتبادلة بين أديل خضر وفيصل مقداد خلال اللقاء تفتح جروحاً لم تندمل، هل تعي يا ترى مديرة المنظمة الدولية المعنية بحقوق الطفل أن الأسد منذ أن قتل هاجر وحمزة في 2011، ما زال يستهدف الأطفال في حياتهم وحرياتهم ومعيشتهم وتعليمهم وأسرهم، يثير الخبر المعلن أنها قد شكرت حكومة النظام على تعاونه ألف سؤال وسؤال حول إذا ما كانت المسؤولة الأممية قد قرأت تقرير اللجنة الدولية للتحقيق المعنون "لقد محوا أحلام أطفال" وحول التناقض فيما نُسب لها مع ما ورد في تقارير الأمين العام للأمم المتحدة من قتل وتشويه وتشريد واغتصاب للأطفال في سوريا.

 

كفالة المكانة المركزية للضحايا اعتُمدت من قبل الأمين العام ضمن المبادئ التوجيهية الخاصة بنهج الأمم المتحدة في العدالة الانتقالية، الأمر الذي يفتح أمام بيدرسن الباب لتشكيل مجلس استشاري لممثلي الضحايا، لا سيما أن سلفه ديمستورا شكل من قبل المجلس الاستشاري للنساء، التعديلات الأخيرة في فريق المبعوث الدولي بإضافة شخصيات أساسية من خلفيات حقوقية ذات مصداقية، مثل منى رشماوي، ولين معلوف، وتسمية نجاة رشدي - العاملة من قبل بالشأن الإنساني - نائباً، يقوي من فرص التركيز على دور الضحايا وقضايا العدالة في العملية السياسية، وبينما لم يتزحزح النظام قيد أنملة عن سلوكه في التعطيل والتسويف والمماطلة، لا أدري ما الذي منع هيئة التفاوض من تمثيل الضحايا والحقوقيين المدافعين عنهم، أسوة بتجارب عملية سابقة ما تزال تُدرَّس في فن التفاوض.

 

مناط مسؤولية القادة عن الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية – وفقاً للقانون الدولي - يفترض العلم الظني لمحاسبة العسكريين، ويقتضي العلم اليقيني لمحاسبة المدنيين، مع عنصر السيطرة، وكلاهما متوفران في حالة قيادات النظام، المحاسبة ضرورة قانونية وأخلاقية وإنسانية لأجل إنصاف الضحايا بجبر جزء من ضررهم المعنوي، ولضمان عدم التكرار، ولتحقيق تطلعات الشعب السوري المشروعة في تداول السلطة ورحيل كل المجرمين وبناء السلام، وحيث يتحرك السياسيون وفقاً لأهدافهم في لغة المصالح، وطنية كانت أم حزبية أم شخصية، يضبط الضحايا التوازن اللازم في التسوية، ليكونوا مع المدافعين عنهم الضمانة في عدم التفريط بالعدالة، والعدالة فضلاً عن أنها بحد ذاتها قيمة وغاية، هي وسيلة لبلوغ الحل السياسي؛ مسارات ومجريات وآليات ذلك أتحدث عنها في الجزأين التاليين.

المصدر : تلفزيون سوريا