الخابور - صالح الحمزة 

لا تكاد تخلو قصة أو سرد ما على لسان الشياب ( كبار السن ) في التعليلة أو الهرجة إلا وتتسلل خلسة بين ثنايا الجمل كلمة « خوش » وإذا كان الثناء على الرجل قد بلغ أكثره يقال فيه : « خوش رجال » وعلى زوجته « خوش مرة » وعلى دابته « خوش فرس » وحديثا « خوش سيارة » .

خوش أصلها فارسي وتعني جيد وحسن , وذات المعنى في اللغة التركية و الكردية و درجت كصفة مدح بين الشعوب التي خضعت للحكم العثماني في زمن مضى ، وقد يتعدى استخدامها من المدح إلى الإعتراض على فعل ما فتقول : 

خوش والله هذا اللي كان ناقص ؟!

و لا تخلو هذه الكلمة من أي لقاء بين عراقيين وتتكرر أكثر من مرة في المحادثة الواحدة و تأتي لتشجيع الشخص المقابل على الإستمرار بالحديث : 

خوش سالفة ( موضوع ) ... كمل عمي كمل ! .

 

في اللغة العربية وكذلك في اللهجات العربية الموصوف يسبق الصفة ، ولكن مع استخدام (خوش) تتغير القاعدة تماشيا مع اللغة المستوردة منها ، و لا يصح استبدال أحد الصفتين مكان الأخرى ، فكلمة (خوش) هي صفة تسبق الموصوف ولا يسبقها ، فنقول مثلا :

 (خوش كتاب) ، ونعني بها ( كتاب جيد) ، ولا يصح أن نقول : ( كتاب خوش ) ، كما لا يصح طبعا أن نقول : ( جيد كتاب) .

في لهجة أهل الشام تستخدم كلمة "خوش" مقترنة مع كلمة « بوش » وفي اللغة التركية تأتي بمعنى الفارغ أو الخالي أما اللغة العربية فلها في معنى البوش مايضيق المجال عن ذكره ولكن لابد من أخذ قطرة من هذا المعين الذي لا ينضب :

البُوش : جماعةُ القومِ لا يكونون إِلا من قبائِلَ شَتَّى وقيل هما الجماعةُ والعيَال وقيل هما الكَثْرة من الناس وقيل الجماعة من الناس المُختَلِطِين يقال بَوْش بائِشٌ والأَوْباش جمعٌ مقلوب منه والبَوْشِي الرجُل الفقير الكثيرُ العيالِ ورجل بَوْشِيٌّ كثير البَوْشِ قال أَبو ذؤيب الهذلي :

وَأَشعَثَ بَوشِىٍّ شَفَينا أُحاحَهُ

غَداتَئِذٍ ذي جَردَةٍ مُتَماحِلِ

 واجتماع الكلمتين في جملة واحدة تصنع في اذن السامع نوته موسيقية ظريفة تعطي معنى أكثر ظرافة وهي عبارة "خوش بوش » والتي تشير إلى أشخاص بينهم مقدار كبير من الألفة والتفاهم . 

ولهذه الجملة أصل في اللغة العربية و لكن بمعنى مختلف قليلا ففي تاج العروس يُقَالُ : تَرَكْتُهُم هَوْشًا بَوْشًا، أَيْ مُخْتَلِطِينَ في بَعْضِهِم .

وحالة الخوش بوش وإن شئت « الهوش بوش » ، قفزت من مفاهيم الألفة الإجتماعية والتفاهم إلى سراديب السياسة و دهاليزها المظلمة فصارت قاعدة لما بعد مرحلة التناكف والتخامش حيث يتحول أعداء الأمس إلى أحباب اليوم وتسيطر على الأجواء حالة من : الخوش بوش .

 

وتختلف خوش هذه بأصلها الفارسي عن الخوش العربية 

في معجم الصحاح :

الخَوْشُ: الخاصرةُ. وهما خَوْشانِ، من الإنسان وغيره.

وفي لسان العرب :

الخَوَشُ صفَرُ البطن وكذلك التخويش والمُتَخَوِّشُ والمُتَخاوِشُ الضامرُ البطن المُتَخَدِّد اللحم المهزول وتَخَوَّشَ بَدَنُ الرجل هُزِل بعد سِمَنٍ وخوَّشَه حَقَّه نقَصه .

 

وأول كلمة سمعناها على الأرض التركية بعد أن عبرنا حدود الموت والنار كانت : 

خوش گالدنيز ، بمعنى مجيئكم جيد ويقابلها بالعربية : أهلا وسهلا وهي أكثر كلمة شائعة في الشارع التركي ويرد عليك الآخر : خوش بولدوغ ، أي وجدنا شيئا جيدا ، بالترجمة الحرفية للجملة و تأتي بمعنى : اهلا بكم .

وبين هوش الحديثة وخوش القديمة العثمانية كان لأتاتورك أثر عميق بعد أن غير الأحرف العربية في الكتابة العثمانية إلى الأحرف اللاتينية سنة 1928 . حيث أخذ أتاتورك على نفسه هدم كل ما هو عربي وإسلامي، بعد تدمير اللغة العثمانية التي كانت تُكتب بحروفٍ عربية، و تمزج بين الفارسية والتركية والعثمانية، وتمثل حجر الثقافة للشعب التركي ما جعلهم يعانون في تلك الحقبة أشد المعاناة ووجدوا أنفسهم في حالة أميةٍ مفاجئة، بالحديد والنار فرض عليهم تعلم لغة جديدة في فترةٍ قصيرةٍ جدًا، فعندما جمع أتاتورك مجموعة من المختصين لصياغة الأحرف الجديدة لتغيير اللغة، قال "صالح ريفقي" أحد الخبراء اللغويين إن تطبيق الأبجدية الجديدة سيستغرق من 15 إلى 20 عام، فرد عليه أتاتورك بقوله "إننا سوف نغيرها في ثلاث أشهر".

 

 اللغة العثمانية كانت تحتوي على كلماتٍ عربية ، ما زلنا نستخدمها نحن كعرب إلى الآن ، وهذه أول عقبة واجهت أتاتورك في أثناء تغييره للغة، فقد اعترض طريقه نحو 60% من الألفاظ العربية الموجود داخل اللغة العثمانية، ما جعل اللغويين الأتراك يجدون صعوبةً شديدةً في استبدالها بأخرى لاتينية .

 

يمكن اعتبار الفترة الممتدة حتى عام 1928 فترة التحضير لثورة الحروف، وفي عام 1922م طرح حسين جاهد يالتشين السؤال التالي على أتاتورك: "لماذا لا نعتمد الحروف اللاّتينية"؟ فأجابه أتاتورك بأن الوقت المناسب لم يحن بعدُ، ذلك أنه من أجل تغيير الحروف لابدّ من إجراء إصلاحات أخرى كثيرة، وعند إجراء هذه الإصلاحات سوف يتقبّل النّاس ثورة الحروف بطريقة أفضل، وسوف يبدو الأمر معقولا اكثر .

 

 في آب/ أغسطس 1934، انعقد مؤتمرٌ لغويٌ حضره أتاتورك، وبصحبته مستشرقان من روسيا هما سامولوفتش وميشينوف، قدما أبحاثًا في اللغة واللهجات التترية والتركية القديمة في بلاد التركستان والقوقاز، و"عرضا رغبتهما في مساعدة الأتراك على تطهير لغتهم من شوائب العربية، وإيجاد بدائل أخرى". 

 

ناقش المؤتمر إيجاد حلٍ للمعضلة، لأن نسبة الكلمات العربية في التركية في ذلك الوقت كانت تتجاوز 60% وهنا ذكر المؤرخ التركي يلماز أوزتونا في كتابه "تاريخ الدولة العثمانية" أن "عدد المفردات العربية تجاوز بكثير 10 آلاف كلمة، فإذا تم محوها أصبح التعامل بالتركية شبه مستحيل"، لذا عمل المختصون في اللغة على البحث في اللغتين الفرنسية والإنجليزية لسد فراغ الكلمات العربية، التي يجري الاستغناء عنها رافق ذلك هجمة عنيفة ممنهجة ضد اللغة العربية .

في كتاب "اللغة التركية أساس اللغة العربية" أدعى عضو مجمع اللغة التركية "حازم أونات" أن اللغة العربية ما هي إلا لغةٌ مشوهةٌ للغتهم، وأنها أخذت من التركية قواعدها واصولها وجذور كلماتها وضمائرها، وأن واجب الدولة التركية الحديثة الرجوع إلى اللسان التركي الخالص"، 

 

رحل أتاتورك وعاشت تركيا من بعده حالة تخبطٍ لغويٍ وانعزالٍ ثقافيٍ خلق حالةً من الجهل بين الأتراك وفصلهم عن تاريخ أجدادهم بالإضافة إلى اتساع الهوة المعرفية بين الأجيال الجديدة والقديمة، واشتهر مثل شهير وقتها يقول : "إن التركي كان يتكلم في اليوم ألف كلمة ، ولكن بعد تغيير الحروف إلى اللاتينية ، أصبح يتكلم 128 كلمةً فقط" .

 

هجرة اللغة التركية القسرية إلى الحروف اللاتينية كان له بالغ الأثر في علمنة تركيا و استدارتها نحو الغرب ، و سواء عد ذلك انتصار أو هزيمة ، تستمر اللغة في لعب أهم الأدوار السياسية في حروب إثبات الهوية . واليوم هناك أهتمام واضح على تعليم اللغة العثمانية القديمة بحروفها العربية في المدارس التركية حيث تساءل رئيس حزب العدالة والتنمية :

" هل هناك أمةٌ في العالم لا يستطيع أبناؤها قراءة لغة أجدادهم التي كتبت قبل مائة عام ؟ "

 

   أما نحن ، فلا نزال نغوص بعمق بحروفنا العربية الأصيلة وماضيها باحثين عن سر « الجوهر » الكامن في الضاد والظاء والقاف والصاد والعين ... سائرون على خطى درويش في مرابع جداريته : 

 

وأنا الغريب بكلٌِ ما أوتيت من

 

لغتي . ولو أخضعت عاطفتي بحرف

 

الضاد ، تخضعني بحرف الياء عاطفتي ،

 

وللكلمات وهي بعيدة أرض تجاوِر

 

كوكبا أعلي . وللكلمات وهي قريبة

 

منفي . ولا يكفي الكتاب لكي أقول :

 

وجدت نفسي حاضرا مِلْء الغياب .

 

وكلٌما فتٌشْت عن نفسي وجدت

 

الآخرين . وكلٌما فتٌشْت عنْهمْ لم

 

أجد فيهم سوي نفسي الغريبةِ ،

 

هل أنا الفرْد الحشود ؟

 

وأنا الغريب . تعِبْت من درب الحليب

 

إلي الحبيب . تعبت من صِفتي .

 

يضيق الشٌكْل . يتٌسع الكلام . أفيض

 

عن حاجات مفردتي . وأنْظر نحو

 

نفسي في المرايا :

 

هل أنا هو ؟

 

هل أؤدٌِي جيٌِدا دوْرِي من الفصل

 

الأخيرِ ؟

 

وهل قرأت المسرحيٌة قبل هذا العرض ،

 

أم فرِضتْ عليٌ ؟

 

وهل أنا هو من يؤدٌِي الدٌوْر

 

أمْ أنٌ الضحيٌة غيٌرتْ أقوالها

 

لتعيش ما بعد الحداثة ، بعدما

 

انْحرف المؤلٌف عن سياق النصٌِ

 

وانصرف الممثٌل والشهود ؟

 

وجلست خلف الباب أنظر :

 

هل أنا هو ؟

 

هذه لغتي . وهذا الصوت وخْز دمي

 

ولكن المؤلٌِف آخر“

 

أنا لست مني إن أتيت ولم أصِلْ

 

أنا لست منٌِي إن نطقْت ولم أقلْ

 

أنا منْ تقول له الحروف الغامضات :

 

اكتبْ تكنْ !

 

واقرأْ تجِدْ !

 

وإذا أردْت القوْل فافعلْ ، يتٌحِدْ

 

ضدٌاك في المعني “

 

وباطِنك الشفيف هو القصيد .