الخابور - صالح موسى الحمزة 

الحقيقة المرة خير من الوهم المريح .
هذه القاعدة تطبق في مجال الطب ولكن بحذر شديد ، لو أن طبيبا وجد ورما خبيثا في جسد مريضه ولإعتبارات إنسانية عاطفيه أخبره أن حالته بسيطة وعرضية ليست مزمنة وتزول مع مرور الزمن ، وبعد فترة من الزمن إنتشر المرض في جسد المريض و وصل إلى مرحلة لا يفيد معها العلاج . ماذا نسمي فعل الطبيب في هذه الحالة ؟
ألم تكن معرفة الحقيقة و تعاطي المريض لأسباب العلاج المبكر أفضل من الوهم القاتل ؟ .

في شهر آذار سنة 2018 قال مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا، "ستافان دي ميستورا"، 
لجمهور في معهد الدراسات العليا في جنيف :
"الحقيقة هي أن التقسيم الهادئ وطويل المدى لسوريا، الذي نشهده في اللحظة الراهنة في مناطق سيطرة مختلفة، سيكون كارثة ليس فقط على سوريا بل على المنطقة بأكملها " .

يجد الناظر في خريطة سوريا اليوم أنها لم تعد في واقع الحال كما كانت عليه قبل 2011 ، بل باتت مقسمة إلى مناطق نفوذ دولية وإقليمية ومحلية، تفصل بينها حدود طبيعية مثل « نهر الفرات » أو اصطناعية مثل « سكة القطار » بمحافظة إدلب ، أو طريق اسفلتي مثل « طريق M4 » جنوبي منطقة نبع السلام . إذ إن القوى المسيطرة في جهة ما تختلف عن المسيطرة عليها في الإتجاه الآخر وإيجاد معابر في مناطق معينة تشبه تماما المعابر الحدودية بين الدول ، الأمر الذي يثبت بأن التقسيم و التفتيت لم يعد كلاماً نظرياً بل واقعا مستقبليا مفروضا لا مناص عنه .

كانت البداية في حلب مع اتفاق وقف إطلاق النار أواسط ديسمبر/كانون الأول 2016  وبموجبه تم إجبار فصائل المعارضة المسلحة و الحاضنة الشعبية لها على الخروج من حلب ، و تقاسم الروس والإيرانين تلك المناطق كمرحلة بسط نفوذ وتهيئة لما قبل مرحلة التفتيت .
نفس السيناريو طبق في المرحلة الثانية 11/5/2018 التي تمثلت في إجبار فصائل المعارضة المسلحة في الغوطة على توقيع اتفاقيات التهجير القسري، التي تهدف إلى إفراغ مناطق سيطرة المعارضة من المسلحين، إضافة إلى السكان المدنيين ( حاضنة الثورة الشعبية ) 
ويندرج ذلك ضمن مخطط التغيير الديموغرافي الهادف إلى تفريغ مناطق النفوذ الروسية والإيرانية من المسلحين والمدنيين معا ، في وقت انتقل فيه الصراع على سوريا إلى مرحلة « الإكتمال والتثبيت » لمناطق النفوذ بين القوى الدولية والإقليمية المتنافسة على الساحة السورية .

تسعى كل جهات الصراع في سوريا :  روسيا  ،  وإيران  ، وأميركا  ، و تركيا ، إلى زيادة وتوسيع مناطق نفوذها وانتشار قواتها وتثبيتها على الأرض كحق مكتسب و إحاطته بالخنادق والألغام وقواعد المراقبة ، ورسمت حوله خطوطا حمراء .

بداية : سعت أميركا إلى تثبيت نفوذها بعد إعلان إستراتيجيتها الجديدة في سوريا، الهادفة إلى إنشاء دويلة ( أو كيان انفصالي ) في منطقة الجزيرة السورية.

تم الإعلان عن تأسيس ما يسمى قوات سوريا الديمقراطية في مدينة القامشلي، شمالي سوريا في 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2015 م .
جاء الاعلان عن تشكيل هذه القوات في أعقاب اعلان الولايات المتحدة نيتها تقديم اسلحة لمجموعة مختارة من قوى مسلحة بغرض محاربة ما يعرف بتنظيم الدولة الاسلامية
وذلك بعد العمل على تشكيل جيش مؤلف من 45 ألف مقاتل، قوامه الأساسي عناصر مليشيات "وحدات حماية الشعب" (YPG) التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني (PKK). وسينتشر هذا الجيش على طول الحدود مع تركيا والعراق وعلى الضفة الشرقية لنهر الفرات، إلى جانب إنشائها قاعدة "التنف" جنوب شرقي سوريا، وقواعد ومطارات عسكرية شماليها.

وبالنسبة لروسيا : فإنها تسيطر على منطقة الساحل السوري بدءا من اللاذقية و وصولاً إلى حمص ودمشق، وقد أقامت فيها قواعد عسكرية بحرية وبرية ومطارات، وثبتت وجودها العسكري باتفاقية مذلة ( مدتها ٤٩ سنة ) أبرمتها مع النظام الطائفي ، تقرّ بتحول القوات العسكرية الروسية إلى قوة تواجد شبه دائم في سوريا الحلم القديم الجديد لقياصرة روسيا ( الوصول للمياه الدافئة ) .

أما إيران : فقد ضمنت الطريق الممتد من طهران إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق، ( مشروع الهلال الشيعي ) وثبتت نفوذها في مدينة البوكمال بالبادية السورية وعلى طول المنطقة الممتدة من دمشق إلى بيروت، وتنشر في سوريا أكثر من 70 ألف مرتزق من مليشيات حزب الله اللبناني والمليشيات العراقية والأفغانية، هذا فضلاً عن قواعد ومصانع أسلحة، وضباط ومقاتلين من الحرس الثوري الإيراني.


الحديث عن سوريا المفيدة (سوريا النظام ) وسوريا الأخرى غير المفيدة، لم يعد صالحاً اليوم؛ إذ حتى سوريا المفيدة ليست واحدة وموحدة، بل يتقاسمها محتلان : روسي وإيراني، وتتقاذفها مليشيات من مختلف الجنسيات .

وإذا أمعنا النظر إلى سوريا المفيدة ( أو سوريا النظام ) فسنجد أنها ليست متجانسة كما زعم النظام الطائفي ، الذي تحول إلى عصابات ومليشيات تدار بنظام مافوي بحت فالمنطقة الممتدة من محافظة اللاذقية مروراً بطرطوس وحمص وبانياس، هي منطقة نفوذ روسي توجد فيها القواعد الروسية البحرية والبرية وشبكة دفاع جوي روسية.
ولا سلطة لأحد على أي عسكري روسي أو مدني يوجد فيها سوى سلطة قيصر الكرملين الذي لا يجد من يحاسبه حتى وإن ارتكب أبشع الجرائم بحق السوريين، بعد أن "شرعن" الروس وجود أساطيلهم وقواتهم وجنودهم فيها باتفاقية تواجد شبه دائم مدتها مبدئيا 49 سنة مع نظام الاسد الطائفي .

كما أن العاصمة دمشق والمناطق الممتدة حولها وصولاً إلى الحدود اللبنانية هي منطقة نفوذ إيرانية، لا تتوقف عند هذا الحد بل إن الطريق الواصل من طهران إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق بات سالكاً لكل القوافل العسكرية الإيرانية ، ولا سلطة لأحد على المليشيات الإيرانية سوى جنرالات وقادة النظام الإيراني.

أما منطقة شرقي الفرات ( الجزيرة السورية) التي تمتاز بتنوع ثرواتها الطبيعية ، حيث تقع أغلب حقول النفط والغاز و تشكل غلّة سوريا الزراعية ، وتمثل ما يمكن تسميته "سوريا الغنية" بمعنى الكلمة ؛ فهي مع الأسف منطقة نفوذ أميركية بامتياز .

وتمتد هذه المنطقة شمالاً من الحدود مع تركيا ، وشرقاً من الحدود مع العراقية، وتصل جنوباً إلى مدينة الرقة ومشارف دير الزور، إلى جانب منطقة المثلث الحدودي ما بين سوريا والعراق والأردن التي توجد فيها قاعدة التنف، التي تؤمن الهيمنة على منطقة البادية السورية الغنية باليورانيوم والفوسفات ومعادن نادرة أخرى وبكميات كبيرة .

وفي شمال سوريا الغربي تقع منطقة "درع الفرات" التي تمتد من مدينة جرابلس وصولاً إلى بلدة الراعي ومدينة الباب، وهي مناطق نفوذ تركية، لكنها لم تكن كافية بالنسبة لطموحات القادة الأتراك، وكان عليهم انتظار التفاهم مع الروس والأميركان لتستكمل قواتهم في عملية "غصن الزيتون" ما بدأته في "درع الفرات" التي توقفت على أبواب منبج، حيث منع الأميركان والروس أنقرة من التقدم باتجاهها حين أطلقت "درع الفرات".

تغير الوضع كثيراً بعد الاستدارة التركية نحو روسيا ؛ إذ بعد اكتمال عملية "غصن الزيتون" بالسيطرة على منطقة عفرين، ومنطقتي تل أبيض ورأس العين وانسحاب مقاتلي كل من حزب العمال الكردستاني وفرعه السوري حزب الاتحاد الديمقراطي، لم يكتفِ المسؤولون الأتراك بتوعدهم في منبج فقط ، بل راحوا يتوعدون بطردهم من عين العرب  وصولاً إلى الحسكة والقامشلي أيضاً . وهذا ما تعمل عليه القوات التركية في الوقت الحالي ضمن مقدمات لشن عملية عسكرية ضخمة على عدة مراحل حنى يستحوذ الأتراك على كامل الشريط الحدودي من دجلة إلى البحر المتوسط حيث يعتبر هاجس الأمن القومي التركي في قمة جدول الأعمال لدى كل حكومة وحزب معارض .

الحقيقة أن العملية التركية في عفرين وتل أبيض ورأس العين كانت محصلة تفاهمات تركية مشتركة مع الأميركان والروس، لتحجيم حزب العمال الكردستاني وتفرعاته في سوريا وشمال العراق .

الوضع في سوريا غير ثابت ، دائما هناك متغيرات على الأرض ولا استقرار فيه لأي قوة عسكرية أيا كانت ، لأن ذلك مرتبط بمصالح وإستراتيجيات القوى الدولية المتنافسة على الأرض ، وبلا أدنى شك إن قطبيْ الصراع الأساسيين هما : روسيا ، وأميركا . اللتان تشكلان ضابطيْ إيقاع الصراع على الأرض ، وتحت مظلتيهما يحاول الإيرانيون والأتراك بسط نفوذهما .

وقامت واشنطن بالتحضير لوجود عسكري طويل الأمد في منطقة شرق نهر الفرات، والحديث عن جعلها نموذجاً يشابه نموذج برلين الغربية عبر عزمها على البدء في إعادة إعمارها وجعلها نموذجا مستقبليا يُحتذى به .
هذا التغير في الإستراتيجية الأميركية في سوريا حفز كل طرف لكي يرد على ذلك بالعمل على تأمين مناطق نفوذه وتثبيتها، وهذا ما جعل الروس والإيرانيين يتملصون من "اتفاقات مناطق خفض التصعيد"، التي كانت تهدف إلى تجميد القتال وتبريد الجبهات، والتحول إلى قضم هذه المناطق واحدة تلو الأخرى .

بعد تأمين السيطرة على غوطة دمشق الشرقية- يقتضي سيناريو الأحداث الانتقال إلى درعا وريف حماة و من ثم إدلب، بغية تأمين مناطق النفوذ الروسية والإيرانية ، وذلك تحسباً لتغير معادلات الصراع على سوريا بين مختلف الأطراف .

مع كل هذه المتغيرات على الأرض الثابت في معادلات الصراع والتنافس أن الخاسر الوحيد هو الشعب السوري بكل مكوناته ، إذ تمكنت كل من روسيا وأميركا من إخراج السوريين جميعاً من معادلة الصراع ، وباتوا بعيدين كل البعد عن التأثير في تقرير مصيرهم ومستقبل بلادهم ، وتحولوا إلى مجرد « أدوات » للصراع الكارثي الدائر .