الخابور -  صالح موسى الحمزة

في عيادة الطبيب النفسي جلس ممدا على سرير جلدي بلون بني داكن ينظر إلى تلك الشهادات المتزاحمة على الجدار وإلى جانبها ثمة مكتبة تراصفت عليها مجلدات ضخمة زينت أطرافها بألوان ذهبية أنيقة .
يجلس الدكتور على مكتبه يقلب كومة من الأوراق يرتدي نظارات سميكة و قد غزا الشيب جانبي رأسه مما أعطى شكله هيبة و وقارا .
قام الدكتور من مكانه وجلس على كرسي قريب منه وبيده دفتر وقلم حبر أسود و قريبا منهما كان هناك مسجل صغير ضغط الدكتور على زر ما فيه ونظر إليه بإبتسامة كلها ثقة وقال له :
كيف أنت اليوم ؟
رد عليه : لا بأس .
قال له الدكتور :
بداية استرخي جيدا أجل هكذا ..خذ نفسا عميقا كن هادئا ، أغمض عينيك والآن تحدث كيفما تشاء وعن أي شيء ، أي شيء يخطر في بالك ، لا تغفل عن أية معلومة مهما كانت .

تنهد قليلا ثم قال دكتور :
أنا عاجزٌ تماماً، هل تفهم علي؟
خارج المنزل أشعر بفحولة تتسع لعشرةِ رجالٍ وفي المنزل لا أختلف عنها مثلي مثلها، ستة شهور يادكتور منذ أن تزوّجنا وإلى الآن ....إنّك تفهم عليّ أكيد، نحن رجالٌ ونفهم ذلك جيدا ، أصبحتُ أهرب من المنزل وآتي إليه في وقتِ متأخر ، صرت أخجل من نفسي لا أتحمل نظراتها يادكتور، كأنّما هي سكاكين تقطّعُ كبريائي أكيد أنك تفهم علي، نحن رجالٌ ونفهم على بعضنا.
هل سحرٌ ؟ هل مطعوم أنا ؟
من يفعل بي ذلك ؟ من يريد تدمير حياتي ؟ ، ربّما تكونُ المسألةُ عيناً وأصابتني ، لا لا أنا متأكدٌ أنّه سحرٌ مطعوم ، أكيد وضع لي في قطعة حلوى ما ، نعم أنا أحبُّ الحلويات كثيراً، أعتقد أنّها إحدى بناتُ عمّي أو خالي أو خالتي .. لا أدري لا أدري ، كلّ ما أعرفه أنّي أمامها عاجزٌ تماماً. خوفٌ غريبٌ ورهبةٌ وتعرّقٌ وألمٌ، أجل ؛ ألمٌ أشعرُ به يكسرُ عظامي كلّما اقتربتُ منها، كلّما حاولت ....
ماذا عليّ أن أفعل؟ أرجوك ساعدني، أنت أملي الوحيد والأخير.

هل تعلم يا دكتور تراودني كثيراً فكرة الانتحار؟ لكنّي أحبُّ الحياة مازلت صغيراً على الموت لم أشبع من هذه الدنيا بعد ، و الطلاق أيضاً، نعم الطلاق قد يكون حَلّا لكنّي أعشقها إلى حد الجنون ولا أتصور حياتي بدونها.
رد عليه الدكتور بهدوء :
اهدأ قليلا ...صديقي لن يكون هناك انتحار ولا طلاق .... خذ نفساً عميقاً واسترخي، نعم استرخي استرخي أكثر، أجل، هذا جميل والآن حدثني عن أول تجربة جنسية لك.
تحدث على مهلك، خذ راحتك في الكلام لا تستعجل لك كل الوقت.

آه يا دكتور ... كيف أبدأ ؟ لا يهم أنت طبيبي ويجب أن تعرف كل شيءٍ.
كان ذلك عندما كنتُ في سنّ السادسة عشر ، في المنزل المقابل كانت هناك إمرأة متزوجة من حارس أمن يتغيب كثيراً في عمله إنّها في العقد الرابع من عمرها لازالت فتيّة، تبدو أصغر من ذلك بكثير ترمقني بتلك النظرات من شباك غرفتها المطلة على الشارع كلّما جئت من المدرسة وكأنّها تنتظرني، أخذت تزور أمي في منزلنا كثيراً ولا أخفيك أنّها حركت شيئا في داخلي، تطور الأمرُ معها وبدأت تطلب مني مساعدتها في إصلاح بعض الاشياء في منزلها واحياناً أساعدها في حمل الاشياء الثقيلة وتصنع لي الفطائر المحلاة وهذه إحدى نقاط ضعفي نعم أنا ضعيف أمام الحلويات ، حتى جاء ذلك اليوم أنت تفهم علي يادكتور أكيد نحن رجال ونفهم على بعضنا .... وبينما نحن كذلك وإذ بزوجها يدخل فجأة ويرانا على تلك الحال ماذا تتوقع من رجل أمن مفتول العضلات يجد زوجته مع رجل غريب؟
انهالت عليّ اللكمات والرفسات من كلّ حدبٍ وصوبٍ وصرتُ بين يدية مثل الكرة ارتطم بالجدار والخزانة والكرسي حتى غبت عن الوعي.
هنا تدخل الدكتور قائلا :
صديقي قف هنا و ركز معي جيدا، وأنت في تلك الحالة هل تتذكر شيئا أي شيء مهما يكن؟ اهدأ قليلا وأغمض عينيك استرخي مجددا ..
المريض : آه يا دكتور! ماذا عليّ أن أتذكر ؟ نعم، نعم، اتذكر كان لون البرادي أزرق أتذكر ذلك جيداً وبوضوح تام و هذا آخر ما أتذكره وبعدها غبت عن الوعي و وجدت نفسي في المستشفى ملقى على سرير وعلي الكثير من الشاش الأبيض والقطن ، بقيت حوالي أسبوع على تلك الحالة.

الدكتور : الآن لنبدأ من جديد هل يوجد في منزلك شيء لونه ازرق منضدة برادي لحاف مثلاً؟
المريض : نعم، بالتأكيد يوجد؛ الحيطان في المنزل كلّها باللون الأزرق.
الدكتور : هذا جميل جداً الآن إذهب إلى أقرب ورشة دهان واطلب منهم أن يغيروا لك لون الحيطان بدهان جديد ولا تقترب أبدا من اللون الأزرق أو مشتقاته.
وعد إليّ بعد أسبوع.

المريض : أغيرُ لون حيطانِ المنزل؟!! بربك يا دكتور هل تمزح معي؟!!

صديقي: ثق بي ولا تنسى لابدّ أن تعود، علي أن أراك، اتفقنا؟!!

بعد أسبوع يعود إلى الدكتور ووجهه يشعُ حيويّة وفي عينيه بريقٌ يشبه ذلك البريق في عيني أسد .

الدكتور : ها كيف الحال؟ كيف أبليت؟
المريض : آه يادكتور الأمور على أحسن ما يكون وعادت المياه إلى مجاريها، شيءٌ لا يصدق أشعر نفسي و كأنّي أصغر بعشرِ سنوات لقد تغيّر كلّ شيءٍ في حياتي، حتى الهواء يادكتور تغير صار له طعم !، حتى الوقت، حتى الطريق و الأكل، الشمش القمر الليل البرد كل شيء أصبح جميلا .... لا بل رائعاً، لكنّي لم أفهم هل كنت مسحوراً، أم ممسوساً، أم كانت مشكلتي في اللون الأزرق؟.