الخابور -صالح الحمزة 

حكتها لي جدتي أكثر من مرة وأنا ابن خمسِ سنواتٍ، ثم أعادتها على مسمعي والدتي ولكن بإسلوبٍ مختلفٍ مع تغييرٍ بسيطٍ في نبرة الصوت دون إهمالٍ للجوهر، ثم قصّتها لإخوتي وأنا أسمع وكأنّها واجبٌ مدرسيٌّ فُرِضَ على كلّ طفلٍ أن يسمعه.

القصةُ بسيطةٌ جداً وتصرّ جدتي ومن ثمّ أمي على روايتها مراراً وتكراراً، وفي كلّ قصة ثمة بطلٍ ولكلّ بطلٍ اسمٌ، والأبطال في قصص القرية لا تبتعد أسماؤهم عن حمد وحميدة، وتمثلّ ذلك جلياً في شعرهم ونثرهم والعتابا والموال وحتى في أمثالهم لابدّ أن يكون « حمد » حاضراً.

مظفر النواب كتب قصيدة « للريل وحمد » بين عامي 1956 – 1958، ونُشرت في الستينيات في مجلة المثقف العراقية، وقد لفتت الانتباه بقوة حال نشرها، وذاع صيتها في العراق، وأصبحت في تداول الأوساط الثقافيّة والاجتماعيّة مشافهةً وتحريرياً حتى يومنا هذا، وتجذرت أكثر في تلقيها بعد ان حُولت إلى أغنية تسابق على آدائها عمالقة الطرب العراقي.

قصيدة « للريل حمد » تقوم على التماهي مع تجربةٍ حبٍّ حقيقية، كان الشاعر طرفاً في الاستماع إلى بعض تفاصيلها في رحلة القطار النازل إلى البصرة، حيث جمعته الأقدار مع إمرأة، تجلس على مقربةٍ منه في العربة نفسها واستطاع بفراسته أن يتلمس حزنها ويفكّ بعضاً من أسراره، واستمع إلى قصة الهجر التي تعرضت لها تلك المرأة مع حبيبها الساكن في منطقة ( أبو شامات ) الواقعة على مقربة من سكة القطار.

تفاعل الشاعر مع القصة بحساسية إنسانية شعريّة عاليّة و تمثل التجربة، وجعلها تجربته، رغم أن المرأة هي المتحدثة في القصيدة عن تجربتها إلى القطار في معظم المقاطع... إلا أن الشاعر هو المتحدث إبداعياً، وبمهارة، بحيث لم يجعل الحوار بينه والمرأة، ولو حصل مثل هذا الافتراض لآلت القصيدة إلى غير ما آلت اليه:
مرّينا بيكم « حمد »
واحنا بقطار الليل
وسمعنا دق قهوة
وشمّينا ريحة هيل.
يا ريل صيح بقهر
صيحة عشق يا ريل
هودر هواهم ولك
حدر السنابل قطا.
يا بو محابس شذر،
يلشاد خزامات
يا ريل بالله.. ابغنج
من تجزي بام شامات
ولا تمشي.. مشية هجر..
قلبي بعد ما مات
هودر هواهم،
ولك،
حدر السنابل قطا".

بكى عليها العراقيون والسوريون ردحاً من الزمن و لازلوا يبكون لليوم مع أنّهم نسوا ( حمد والريل ) .

كان حمد حاضرا في وصية الشيخ « رميض » لبكره في واجب إظهار الكرم كصفة متلازمة لشخصية العربي الأصيل لا تكاد تتخلى عنه رغم ضيق الحال وقصر ذات اليد « العين بصيرة واليد قصيرة » و مع ذلك على حمد أن يقوم بواجبه على أكمل وجه :
«حـمد» يبني تلكه الضيف حي بيه
ويزاد النذل كون سموم حي بيه
بخيل البنى داره وعاش حي بيه
وكـــريم الحفظ عرضه من الردى

يتندر علينا أبناء ( المدن ) بعنصرية مموهة تحت غطاء النكتة والمزحة في طرفة :
ما ظل غير « حمد » بالجيش ؟!
وتعدى ذلك إلى سخرية واضحة في الدراما التلفزيونية والسينما وكتابات بعض مدعي الثقافة والحداثية.
السخرية الهابطة من ابن الريف ( الشاوي ) صارت مادة تجارية رائجة يتنافس في إثرائها منتجين و أشباه كتاب ومخرجين مبتدأين تحكمهم ثقافة طائفية معينة.

بالعودة إلى قصة الجدة:
حميدة وحمد طفلان صغيران يتيما الأبوين ساقهما الفقر ليكونا راعيين لأغنام القرية.

حميدة الأخت الكبرى وجدت بتقدير الله عز وجل جرة مدفونة مليئة بالذهب حملتها وأخفتها في مكان ما أكثر آمانا، أخفت الأمر على حمد وفي المساء سألته يا حمد:
لو كان عندنا جرة ذهب ماذا تصنع بها؟
أجاب حمد على الفور:
أذهبُ إلى الدكان واشتري كلّ السكاكر والألعاب الموجودة فيه.

أدركت حميدة أن اخاها غير مؤهل لحمل هذه المسؤولية فانتظرت أعواماً أخرى كبر فيها « حمد » واشتد عوده ورجح عقله، فسألته مرة أخرى ياحمد: لو كان عندنا جرة ذهب ماذا تصنع به؟
أجاب حمد بتأني سأشتري لنا بيتا جديداً واسعاً بدل هذه الخرابة، ثم أشتري أرضاً واسعةً وأجد لها فلاحاً جيداً وأشتري الكثير من الأغنام وأضع لها راعياً محترفاً، ثم أبحث لي عن تجارة ما.

فسألته حميدة ولم التجارة :
أجابها بثقة لأنّ تسعة أعشار الرزق في التجارة.
هنا اطمأنت حميدة وتأكدت أن أخيها بلغ من الرشد مبلغ الرجال ولا تنقصه الحكمة فأخرجت له جرة الذهب.

محور القصة مبني على حكمة الأخت الكبرى وبعد نظرها وصبرها وتأنيها على أخيها حتى وصوله إلى مرحلة الإدارة والإنفاق الصحيح ودورها هنا يتقاطع مع دور الأم فكانت أمه الصغرى وأخته الكبرى بذات الوقت.

أقف مطولاً في كتاب الله عزّ وجل عند قوله تعالى:
{ إِذْ تَمْشِىٓ أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُۥ ۖ فَرَجَعْنَٰكَ إِلَىٰٓ أُمِّكَ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ۚ .....} [طه:٤٠]. وفي سورة القصص:
{ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ .... } [القصص:١١].

و أتساءل ما السرّ الذي جعله الله عزّ وجل في قصة موسى حتى يبرز خبر الأخت دون غيرها ؟
ألم يكن لموسى عليه السلام أقارب غيرها؟..
ثم أين الجيران؟
و أين الصالحون من بني إسرائيل؟

قصة « الأخت » التي أعلى الله شأنها في كتابه بذكرها ، حيث مضت في عالم من الخوف والجبروت خلف أخيها الرضيع.... لا يمكن لقلب على الأرض بعد أمه أن يقوم بهذا الدور الشجاع إلا قلب الأخت.
تابعت التابوت حتى ألقاه الموج بقصر فرعون ولم تتراجع .. مضت تتابع خبره في القصر رغم المخاطر ... واقترحت عليهم: { هل أدلكم على أهل بيت.... }
قصة أخت موسى قصة حبّ مكررة وموجودة في كلّ بيت من بيوتنا، قلوبٌ تحملُ هذا الحبّ للإخوان سطر القرآن ما يحملنه الأخوات من حبّ لاخوانهن.. لم يقل فلانة لأنها ليست قضية فلانة بل قال : { وقالت لأخته} لأنّ الأخوة الكامنة هنا هي الأخوة التي تبعث على الرحمة والعطاء بلا مقابل وبلا حدود .

لم يذكر العرب شعرا عميقا بليغا عن عظم محبة الأخت لأخوتها ورثائها لهم مثل الخنساء حتى قيل عنها بحق شاعرة العرب :
أعيني جودا ولا تجمدا
ألا تبكيان لصخر الندى
ألا تبكيان الجرىء الجميل
ألا تبكيان الفتى السيدا

طويل النجاد رفيع العماد
ساد عشيرته أمردا
إذا القوم مدوا بأيديهم
إلى المجد مد إليه يدا

كلما قرأت شعر الخنساء رأيت فى أبياتها نوعا من الإحساس بالذنب يتجاور مع إحساسها بالفقد، ويرجح ذلك القول بإن "الخنساء" هى التى دفعت "صخر" للخروج للثأر لأخيه "معاوية" وبالفعل استطاع "صخر" أن يثأر لأخيه، ولكنه أصيب إصابة ظل يعانى منها عاما كاملا حتى مات، فبكته الخنساء حتى فقدت بصرها.

أما نحن معاشر التائهين في صحراء الإغتراب أكرمنا الله « بأخية »
في كلّ زيارة لها تهل علينا كما غيمات الصيف الرشيقة تطارد بظلالها اللطيفة لهيب الشوق المتزايد إلى أيام مضت كحلم صيفي شرد في متاهات السنين .

تضع قدمها عند عتبة الباب وتنقلب الأمور في المنزل رأساً على عقبٍ، ويتغير النظام في كلّ شيءٍ تدخل مبتسمة ضاحكة بوجهها المشرق كأنّه شمس الضحى في باكورة الربيع و تتسلل معها رائحة الأم تنثر عبقاً قديماً يستدعي معه أثقالا من ذكريات دافئة .
على يديها يعود طعام الأم حاضرا بهيبته المعهودة يتصدر وجبات الغداء والعشاء يجرك بقوة إلى تلك النكهة المفقودة بعد غزو البيتزا والمكسيكانوا وتلك الأطعمة العابرة للقارات القادمة مع طهاة اليوتيوب أو ثقافات طغى عليها الكاري والباربيكا و مكونات أخرى مشبوهة ليعود علينا من جديد صحن الرز الكبير المغطى بالسمن العربي « سمن الغنم » ولحم الحميس يقطر دهنا، و لابد من حظور « السياييل » على طرفي السفرة كضيف شرف أنيق له طقوسه ومريدوه أيام الشتاء الباردة .

يتجاوز الأمر في حظورها متاهات الطعام إلى شيءٍ أعمق من مجرد إحساسات كيميائية تداعب حليمات الذوق ، شيء من « ترانيم » صوت الأم ترثه البنات عادة عن الأمهات كما ترث الملامح والسمات تلك النبرة الأمومية في صوت الأخت تعيدك خطفا إلى سنين المهد الأولى تلفك بذلك الحنان الهادىء مع نهاية كلّ جملة.

في متاهة الاغتراب الواسعة تكون هي الواحة حيث تنبع معها. دونما نضب ذكريات العائلة الكبيرة وسفرة الطعام المكتظة بصغار أشقياء نمى عليهم الريش سريعاً وطاروا بعيداً عن عشهم في جهات الأرض كل سقط حظه تحت نجمة ..
في زيارتها الخاطفة التي لا تتجاوز الثلاثة أيام لا نراها إلا منتصبة كالنخلة في المطبخ بين اللحم المفروم والبصل والبندورة وأكوام البقدونس والملوخية وتتغير لائحة الطلبات المعهودة فجأة إلى أخرى أكثر طولاً ، يسيل منها الدهن و القشطة والقطر وتفوح منها رائحة الهيل والقرفة. . ثلاثة أيام في كلّ شهرين أو ثلاثة. تراها القدور والطناجر أكثر ما نراها وكأنها في معركة مع الزمن ، لابد من ترك أثر طيب على مائدة الطعام ولابدّ من رأي جديد لتحريك أثاث المنزل وتغير الستائر والوسائد والأغطية ولو كان بمقدورها أن تجعل الباب مكان الشباك والشباك مكان الباب والغرب مكان الشرق لفعلت ، المهم اصنع شيئا مختلفا وشعارها :
المياه الراكدة تفسد بسرعة .
تنقضي أيام زيارتها سريعة كنسمة صيفية عابرة ولسان حالها يقول :
« هنيال من زار وخفف ».
مع غيابها يغيب شيءٌ منك تشعر به جلياً ، نوعٌ من الفراغ الذي يشبه حالة الفطام .
الأخت ذلك الكائن الذي أودع الله في أسرارا من المحبة والحنان وبلا شك هي النسخة المؤهلة لتكون أمك الصغرى .