الخابور - صالح الحمزة 
إذا رميت ملحا في داخلها فإنك ترى ( قرعة إبليس ) ، وضعت الملح في جيبي الصغير ورحت أترقب مرور زوبعة عابرة في تلك الأرض الجرداء الهاربة من قاموس المدينة .

مع قدوم حزيران تنشط حركة الزوابع و كأنها أفاعي صفراء تتلوى صعودا لتعانق قبة السماء .

تقف جدتي عند طرف الدار تلوح بيديها و كأنها تدفع شرا : عوذا عوذا ، ولكن الزوابع عمياء صماء لا تستجيب لتعاويذ الجدات . وبقوة تصتدم الزوبعة بدار الطين المتراخية تحت شمس « القيض » يتبعها ذلك الهدير الذي يشبه فحيح الأفاعي و لازلنا نسميه « وحيف » ، محدثة الكثير من الجلبة والإضطراب فتنقلب القدور و تتطاير الأغطية وتختفي الملامح تحت الغبار الأصفر ، و إذا كان ثمة صياني لدبس البندورة تنتظر النضج في مكان ما فالمآساة عظيمة بلاشك .

كانت زوبعة كبيرة على طفل بعمر السابعة ولا أعلم أهو الفضول أم سذاجة الصغار ، ملأت يدي بالملح وركضت باتجاه الزوبعة وكلما اقتربت منها زاد « وحيفها » وكأنها عملاق ضخم يصرخ في وجهي : أبتعد أيها الأبله , تلتف حول نفسها بشكل رهيب ويلتف معها بقايا الشوك اليابس و السفير ( القش ) وكثير من أكياس الورق والنايلون ، أغمضنت عيني ودخلت قلب الزوبعة ، خف وزني كثيرا ولعلي درت مع قوتها قليلا و اختفت الأصوات إلا من ذلك الفحيح ، و بالكاد فتحت عيني وقذفت الملح من يدي ولم أرى سوى الغبار الذي استقر الكثير منه في عيني .

تركتني الزوبعة مسرعة بلا اكتراث وذهبت تبحث عن صغير أحمق آخر يصدق « خواريف » العجائز .

تستهويني كثيرا ظواهر الطبيعة وتثير في نفسي الفضول والرهبة ، وأراها أشخاصا متقلبي المزاج سريعي الإنفعال و أحيانا جنودا أشداء . لكل ظاهرة كيانها الخاص ومزاجها المنفرد وأقف أمامها بإجلال وإكبار ، أحترم الغيوم ومطرها ورعدها وبرقها و تأسرني تقلبات الرياح بنسيمها الرطب في صباحات آب المبكرة وعواصفها عندما تنقل الفصول أحمالها وهدوءها في أيام الصقيع ويطيب لي النوم في ليل الشتاء الطويل أما نجوم الصيف المتراقصة على إيقاعات الليالي فتلك قصة عشق لا تنتهي على سطح المنزل في القرية بعيدا عن أضواء المدينة وصخبها .

بنات نعش ، ونجم سهيل ونجمة الراعي ، لكل نجمة قصة في كل تراث ولكل إنسان نجمة تائهة على درب التبانة قالها فيلسيوف مغمور : تلمع بشدة عندما يولد وتخبو إذا خبت أيامه وتسقط في مكان ما مع سقوطه .

قرأت في القاموس عن :
زَوْبَعَة [مفرد] : جمعه زَوْبَعات وزَوابِعُ : إعصار، ريح تثير الغبار وتديره في الأرض ثم ترفعه إلى السَّماء .
وسمعت ذات مرة عن زوبعة في فنجان وفي تفسير هذه الظاهرة وجدتها : هيجان ضعيف الأثر ، ثوران لا يدوم طويلًا ولعل المثل الدارج في ثقافة أهل الجزيرة : « مثل نار الشوك » يعطي معنى قريبا .
وضحكت كثيرا على قصة المثل : « مالٌ تجلبه الرّياح تأخذه الزوابع » .
حيث تجلى كيد النساء في أبهى صوره ،ولكن اختلط علي الأمر في القاموس المحيط :
زَوبعة: (اسم) .
الجمع : زوابع : الإِعصار .
الزوبعة في عرف علماء الأرصاد ليست الإعصار مطلقا ولو صح التشبيه فهي كالطفلة حديثة الولادة أمام الرجل المكتمل الفتوة والعضلات .

في المدرسة الثانوية و في حصة الجغرافية حكى لنا الإستاذ « حسين الأحمد » مطولا عن الإعصار و تعلمت منه أن للإعصار عين وجدار :
و عين الإعصار: أو منطقة المركز، هي أكثر الأجزاء هدوءا ، ويبلغ قطرها من 10 إلى 50 كم، وتكون بها أدنى درجات الضغط.
أما جدار الإعصار: وهو جدار ضخم من الغيوم الكثيفة والعواصف الرعدية المدمرة، يدور حول عين الإعصار، ويزيد بعده الأفقي على 100 كم ويتميز بحركات هوائية عمودية صاعدة عنيفة، ويمثل هذا الجدار الجزء الشديد الاضطراب في الإعصار، ويكون مصحوبا بهطول الأمطار المغرقة والبرق والرعد .

في 23 آب سنة 2005 كان
إعصار كاترينا أكثر الأعاصير دموية والأكثر ضرراً من كل الأعاصير المدارية في المحيط الأطلسي خلال موسم الأعاصير في تلك السنة وهذه الكارثة الطبيعية هي الأكثر تكلفة، ويعتبر أحد أعنف خمسة أعاصير في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، ويعتبر سابع أكبر أعاصير المحيط الأطلسي على الإطلاق.
وبلغ عدد الوفيات:.يومها 1836
وقدرت الخسائر يومها 150 مليار دولار و خسر ستة ملايين شخص وظائفهم تلك السنة .
يصر علماء الأرصاد على أن الأعاصير منشؤها المنطقة الإستوائية والمدارية وهي رياح دورانية تنشأ عندما يرتفع الهواء الدافيء الرطب من سطح المحيط ليشكل منطقة منخفض جوي. يعزز هذا المنخفض من قوة الرياح التجارية التي تهب باتجاه خط الاستواء .
مع أن سوريا ليست بلدا مداريا ولا استوائيا وتبعد عن خط الاستواء أكثر من 3800 كم شمالا ، إلا أنها شهدت أعنف الأعاصير في التاريخ ليست أعاصير قمعية أو حلزونية أو رعدية . إنها أعاصير أكثر عنفا وكرها من صنع البشر طابعها حقد وإجرام طائفي جاوز مداه وتعدى كل حدود العقل والممكن من زمن هابيل وقابيل .

براميل الموت التي القيت على مدنيين عزل خلال عشر سنوات تعادل بشدتها إعصار كاترينا ألف مرة .
القنابل الفراغية والعنقودية التي ألقتها طائرات الحقد الطائفي تزيد في قوتها التدميرية ألف مرة على إعصار «مانكوت» الذي ضرب الفلبين سنة 2018 .

الصواريخ البالستية بعيدة المدى التي أطلقها النظام الطائفي على المدنيين من اللواء 155 في القلمون فقط تفوق قوتها التدميرية :
إعصار «أرما» بـالولايات المتحدة الأمريكية و إعصار «ماثيو» بولاية فلوريدا و إعصار «بتريشيا» بالمكسيك كلها مجتمعة مائة ضعف .

في يوم 28 تشرين الثاني سنة 2013 وعلى مدى ثلاثة ليالي متوالية سقطت صواريخ باليستية « سكود » شديدة الإنفجار في مدينة الرقة على سوق الهال القديم في شارع 23 شباط وآخر استهدف مبنى الهجرة والجوازات ومناطق سكنية في منطقة سيف الدولة .

عايشت تلك اللحظات المرعبة وكنت شاهد عيان ودخلت « عين الإعصار » و رأيت حجم الدمار الرهيب الذي خلفته هذه الأسلحة الفتاكة ، و لو ألقي 5% منها على الجولان وفلسطين لولى الاسرائيليون منها هربا ورعبا ولكن : كل الحق على عبود ... ومن عبود لا أعلم ..

كان الغبار مختلفا هذه المرة عن غبار تلك الزوبعة قبل ثلاثين سنة . كان غبارا أسودا كريها مقيتا غطت رائحة البارود و الدم والجثث الممزقة على لونه وتهت بين ركام الأبنية المتناثرة مع من تاهوا باحثين عن بقايا أشلاء لأناس كاتوا قبل دقائق يحلمون ...
لم أكن بحاجة لقليل من الملح لألقيه في ذلك الغبار علي أحظى هذه المرة برؤية « قرعة إبليس » حقا ، فما رأيته يومها صنع لي يقينا بأنك لن ترى أبليس أبدا .... ليس لأنه غير موجود ، هو موجود بلا شك ، ولكن لأن دوره تضاءل وتقزم أمام همجية وحقد هذه الطائفة .