محمد الجبوري

يستهجن البعض احتفاء السوريين بتعيين "عمر الغبرا" المنحدر من أصول سورية وزيراً للنقل في كندا، وتحول الخبر إلى "ترند" على منصات التواصل الاجتماعي، وانقسامهم بين من يعتبره إنجازاً يحسب لمهاجر من أبناء بلدهم استطاع الوصول إلى منصب مهم في دولة متقدمة، وبين من يحسبه نقطة لصالح العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص في تلك الدولة.

في كلتا الحالتين فإنني لا أجد مبرراً للسخرية من الأمر واستهجانه، ومن الضرورة النظر إليه ضمن منطق نفسي واجتماعي، فإنجاز كهذا لا يشبه غيره بنظر السوريين (كنجاح طالب أو طبيب أو عالم أو أديب سوري في الخارج).

إن هذا الاحتفاء يمكن أن يؤخذ على أنه نشوة انتصار على منظومة الغباء التي ظلت تحكم البلاد طوال نصف قرن، ولا تقتصر على الحاكم والمقربين منه، ولا تدخل في خانة الغباء السياسي، بل غباء مطلق مفضوح، يمكن أن يلاحظه الإنسان العادي في كل مؤسسة من مؤسسات الدولة، من موظف جباية الكهرباء حتى رئيس الوزراء وكبار المسؤولين وصولاً إلى "السيد الرئيس" نفسه، غباء اجتماعي وفكري قد يضطرك إلى أن تساير موظفاً يحاول إقناعك بأنك أنت وأولادك من منجزات الحركة التصحيحية، وإن لم تفعل قد تعرض نفسك إلى مواقف لا يحمد عقباها.
عندما تخرجت من الجامعة في عام 2010 استدعتني المفارز الأمنية الموجودة في المنطقة (العسكرية، الجوية، السياسية، أمن الدولة) من أجل إجراء دراسة أمنية، وهو أمر لم يكن مستغرباً ولا مدعاة خوف بالنسبة لي؛ يحصل عادة بسبب انتماء كثير من أبناء منطقتي وعشيرتي وأقاربي إلى حزب البعث العراقي، حتى إنني كنت أعرف أنهم سيسألونني "فلان شو بيكون لك، شو علاقتك مع فلان ...الخ" لكن السخيف في الأمر أن يكون المسؤول عن هذه الدراسة الأمنية -التي عليها يتحدد مستقبلي، وإن كنت أهلاً لهذه الشهادة التي تكرمت بها علي الحكومة، والوظيفة التي ستتكرم بها لاحقاً-  برتبة مساعد أو أقل من ذلك، أي أنه لم يتم الدراسة الإعدادية غالباً. لاحقاً عرفت أن نفس المساعد يجري دراسات أمنية على أشخاص من حملة شهادة الدكتوراه ومدرسي الجامعات.

وفي فترة اعتقالي لدى فرع التحقيق العسكري في دمشق عام 2013 كان المحقق الذي استجوبني برتبة نقيب، وهذا معناه أنه شخص قد درس في الكلية العسكرية وخضع إلى دورات في  أساليب التحقيق وما إلى ذلك، كنت أعتقد أن المحقق يجب أن يكون داهية في الذكاء، لكن سؤالاً غبياً منه دفعني إلى الضحك يومها على الرغم من الموقف المر الذي أفقدني نصف وزني وثلاثة أرباع روحي، والأشهر الخمسة التي قضيتها في المنفردة:

 "اسم خالك تركي، إلك شي تواصلات مع تركيا" كادت تكلفني ضحكتي تلك أسناني الأمامية بسبب اللكمة التي عاجلني بها.

كثيرة هي المواقف التي جمعتني وجمعت كثيراً من السوريين بأغبياء من هذه الشاكلة، وليت الأمر يتوقف عند المؤسسة العسكرية التي هي في أساسها مؤسسة قمعية، وربما من بدهياتها أن يكون القائمون عليها من ذوي الفهم المحدود إلى درجة الغباء؛ مما يزيد في قسوتهم وبطشهم، وعماهم عما يغير ولاءهم ودفاعهم الأعمى عن المنظومة وحاكمها. بل يتجاوزها إلى ما هو أمر وأدهى وأكثر إذلالاً وإهانة؛ إلى الصحة والعدل والتموين والنقل والتعليم... وكافة مفاصل الدولة، فهل هناك ما هو أسوأ من أن تجد أستاذاً يعين بتزكية من فرع الحزب معيداً في كلية الأدب العربي، على سبيل المثال، لا يعرف كيف يقطع عروضياً بيتاً من الشعر، ومع ذلك بغبائه المكرس ينكر على طالب من طلابه معرفته وإبداعه، بل يصل به الأمر حد رفض حلقة بحث الطالب وتأخير تخرجه، كما حدث مع صديق لي يحمل الآن شهادة الدكتوراه في اللغة العربية من جامعة عالمية.
نظام رسّخ الغباء عبر عقود متلاحقة وجعله أحد أدوات استبداده وتسلطه، لأنه يعرف تماماً وبكل بساطة أن الذكاء يساوي الحرية؛ وهذا ما صار ينكشف على أعلى المستويات بعد ثورة وسائل التواصل الاجتماعي، فلا تستغرب وقوف "محمد قبنض" كالمهرج تحت قبة السيرك المسمى تجاوزاً (مجلس الشعب) ، أليس هو من صوّر للعالم برأس ماله ورأسه الفارغ أننا شعب يسحب "الشبرية" لأتفه الأسباب ويضرب حريمه ويجمعهن في ليلة واحدة، وأننا مجموعة من السذج تجمعنا حارة يجب أن يقفل بابها كل ليلة!

ولا تستغرب ظهور شيخ الغفلة "رامي مخلوف" لينذر بقيام الساعة ويبشر بظهور المهدي، إذ ليس هذا أمراً طارئاً على شخصيته، فدولة مركبة بهذه التركيبة الغبية لن يكون خازن بيت مالها وكبرى شركاتها شخصاً ذكياً يدير الأمور لصالح الناس، بل جاهل يرى جهله علماً وحكمة.
ولا تستغرب أن وزير التربية ينكر على وزير الصحة فتح المستشفيات في ظل جائحة كورونا، ولا تستغرب "سهيل الحسن" ونظرياته التي فاقت نظريات إينشتاين وأركان إيمانه التي غلب فيها الأئمة والخلفاء .. لا تستغرب شيئاً على الإطلاق.

وكذلك لا تستغرب هذا الاحتفاء بسوري أصبح وزيراً هنا أو نائباً هناك، وتلك المقارنات –الساذجة- التي نجريها بين النظام السوري والأنظمة العالمية أحيانا من فرط حسرتنا على أنفسنا.

إننا نحتاج إلى ألف ميشيل سورا ليؤرخوا لهذه المهزلة، ويضيفوا إلى وصف "سوريا المتوحشة" الذي أطلقه على سورية في كتابه، وصفاً جديداً لتصبح "سوريا المتوحشة الغبية".
المصدر: أورينت نت