أيمن الأحمد

عزيزتي مي سكاف، فكرت بالكتابة إليك قبل الآن كثيراً، لكني لم أتجرأ ربما كنت متشائماً بعض الشيء.

قبل عام تقريباً، تحديداً في حزيران الماضي، حملت أوراقي إلى دمشق، كان ما يزال متسعٌ من البراءة تفرد أجنحتها على ربوع الشام.

لم تكن تلك الأوراق التي حملتها إلا مسودات لفيلم سينمائي، كنت قد كتبته في شتاءات الحسكة الباردة والمغبرة!

وكبدوي يعيش في أطراف بادية نائية في أقصى الشمال الشرقي لسوريا، لم أكن أعرف أحداً في دمشق، أو بالأحرى، لم أكن أعرف أحداً يعرف فناناً أو منتجاً أو صحفياً أو صديقاً يدلني عليك! هكذا كنت أفكر، أو هذا ما يمنّي به نفسه كاتب مغمور.

أكثر من عشرين عاماً، وأنا أنظر إليك كأمٍّ روحية لحلمي، وعندما انبثق الحلم بالتغيير، واقتربنا أكثر من أي وقت مضى إلى لحظة الحرية، رأيتك خارج "الدراما" تتكلمين عن أحلامنا في وطن مكتمل الأمل والحناجر.

في طريقي إلى دمشق العام الماضي، راح شريط الذاكرة يتداعى.

قبل عشرين عاماً تقريباً، أي عام 1992، رأيتك للمرة الأولى والوحيدة. دهشة غريبة دهمتني وأنا طفل في قرية نابتة بفضاضة وملل على سفح جبل عبد العزيز، جنوبي غرب مدينة الحسكة.

ما زلت أتذكر تفاصيل ذلك الخريف الآسر، القرية المسكونة بالهدوء والملل والضجر ينقلب فجأة خريفها المضجر إلى ربيع صاخب ومدهش. أناس كثيرون، سيارات، كاميرات تصوير، ممثلون، ومخرج. كل ذلك من أجل تصوير فيلم "صهيل الجهات" قرب قلعة "سكّرة" الأثرية.

- ماذا تفعلون؟

سألت أحدهم، وقد كان يثبت كاميرته بصعوبة بين الأحجار المتناثرة، لكنه تجاهل سؤالي ولم يرد.

أعدت عليه السؤال مرة أخرى:

- ماذا تفعلون؟؟

- نصوّر فيلم سينما

- سينما!

يااااه، ما أجمل تلك الكلمة! كنت أردّدها في نفسي كيلا أنساها.

جلست وحيداً على صخرة تطلُّ على موقع التصوير، أراقب كيف يتحركون، كيف يتكلمون، وتخيّلت نفسي بطلاً للفيلم.

كنت مندهشاً بأدائك الساحر، خاصة في المشهد الذي ذُبحت فيه الفرس، كنت تبكين حينها حقيقة لا تمثيلاً، كان مشهداً قاسياً، وبكيتُ حينها. ربما خفتُ من منظر ذبح الفرس لا أعرف حقيقة ماذا حصل، اختلط الواقع عندي، فمشهد قتل الفرس كان حقيقياً.

اقتربتِ مني. ما زلت أتذكر عينيك المليئتين بالسحر والقوة، ولم يخفِ الاحمرار الخفيف ذلك البريق الآسر.

أعطيتني علبة بسكويت كانت بيدك، قلتُ لك: لست جائعاً.

أمسكتِ يدي ووضعتي البسكويت فيها.

ما أتذكره الآن عن تلك اللحظة، ويحيّرني إلى حد يوصلني إلى نوبة ضحك هستيري، أنني أكلت البسكويت وأنا أبكي.

لذا سافرت إلى دمشق حاملاً أوراقي وذاكرتي وأحلامي. لم أعرف من أين أبدأ، لا أعرف أين أجدك، حتى عرفت أنك تترددين على مظاهرات حي الميدان.

الميدان!

ميدان الشام التي أحبّ، خيل وصهيل مرة أخرى! أي صدفة تلك، أي ترتيب سرّي!

لن أنسى هذا المشهد ما حييت، سمعتك تهتفين بقوة وإصرار، ارتعش جسدي برجفة ممتدة من ذلك الخريف الملوّن إلى حدود ربيعنا الحالم.

بدأت أهتف وأبكي: "حرية.. حرية"، شيء يشبه الحلم، وكأنني للمرة الأولى أكتشف صوتي. صوت كثيف لا يتخلله أي فراغ.

لم تعطيني "البسكويت" في مظاهرة الميدان، لكن الحلم كان يرتسم أمامي بالهتاف للحرية. كان صهيلاً، نعم كان صهيلاً وليس هتافاً فحسب. 

المصدر: جريدة العربي الجديد (تاريخ النشر28 كانون الأول/ يناير 2015)