(أيمن الأحمد)

يستعير الكاتب الإكوادوري خوان مونتالفو (1832 - 1889) شخصية دون كيشوت؛ بطل قصة الإسباني ميغيل دي سرفانتس، ليكتب رواية بعنوان "فصول من دون كيشوت نسيها سرفانتس".

يخيل إليّ أنني أستطيع الاستعارة أيضاً من هذه الرواية، كما فعل مونتالفو؛ لسببن: الأول أن شخصيتيها الرئيسيتين، دون كيشوت وسانشو، تجاوزتا الرواية وأصبحتا إرثاً إنسانياً وسينمائياً وتلفزيونياً. والثاني، قرابتي اللغوية مع راوي العمل المتخيَّل، الذي أطلق عليه سرفانتس اسم "سيدي حامد بن الأيل"، وهو اسم عربي مغاربي.

استعارتي السورية لشخصية دون كيشوت هي للبحث عن مرجعية سردية تتماهى مع علاقة المثقفين السوريين ببعضهم، فهي تبدو سهلة المعاينة والحضور في تفاصيل حياة اجتماعية صار يعيشها شريحة من السوريين في الخارج.

غالباً ما تصدر واجهة الحرب في سوريا "مثقفون" متعدّدو الاستعمالات في السياسة والإعلام والثقافة، فصار من الصعب فكّ كثير من الاشتباكات الفكرية التي يصرّح بها "مثقفو" الحرب السورية.

فبحكم مآلات الحرب، فرّ العديد من السوريين إلى تركيا، وبدعم تركي وغربي بدأت أنشطة السوريين التي حرموا منها لأكثر من نصف قرن قريبة التحقق: إعلام، منتديات، مجتمع مدني، أحزاب سياسية.

لكن تلك الحيوية الاجتماعية التي أفرزتها الاحتجاجات السلمية، بدأت تأخذ شكل فئتين ثقافيتين نادرتين، تجدان في رواية سرفانتس مرجعية لا إرادية.

الأولى، تمثّل شخصية دونكيشوت، والثانية شخصية سانشو، بنسق سردي وتراتبي. ففي حين يتوجب على الثانية توثين الأولى، يفترض من الثانية قبول التدجين.

فالروح الدونكيشوتية التي اتسم بها غالبية المعارضين السوريين أخذت شيئاً من العمومية عند كثير من منتهزي المؤسسات المدنية والإعلامية والثقافية والسياسية بشكل لا تختلف فيه تلك الحالة عن حالة الثقافة السورية قبل الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها البلاد، أو ما عرف بـ"الاستزلام" لشخص أو سلطة، وغالباً ما كانت سلطة أمنية.

في المقابل، نجد شخصية سانشو التائهة في خيارات ما هو ممكن وما هو وهمي، في محاولة منه لتمثيل دوره بإتقان كي يستمر في العيش في بلاد كان من الممكن أن تكون بلاده مثلها.

هذه العلاقة تأخذ شكل واجبات ومهام ملقاة على سانشو السوري، لعل أقدسها حمل سلاح سيده ومحاربة طواحين الهواء والتصفيق له بعد الانتهاء من خطابه لرعاة الماعز. ومطلوب من سانشو أيضاً أن يتفهم حلم الفرد "الدونكيشوتي" ويقيسه على الطموح الجمعي للثورة، أو أن تتلخّص الثورة الجمعية في زمنه الفردي.

ولأن سانشو ريفي بسيط (يسهل استغلاله) فهو يعمل بصمت، ويرى ويسمع دون أن يتكلم كثيراً ولا يناقش سيده في أفكاره ورؤاه الحالمة. وإن حصلت تلك المناقشة، فيميل إلى التظاهر بالاقتناع؛ لأن سيده الأقدر على إدراك الأمور وفهم أسرار الفروسية. وتكون بالتالي الأشياء مرتبة على الشكل الآتي: الخان المتواضع يصير في نظره قصراً، وصاحب الخان يصير أميراً أو ملكاً.

وكل مرة يطلب فيها سانشو السوري من دون كيشوت السوري أن يهبط إلى الواقع ويرى الأمر دون إضافات حالمة، لا تجلب له محاولته هذه سوى السخرية من الآخرين ومزيد من الضياع. ولا يكترث الأخير بنصائح الأول، ويستمر في خطاباته لرعاة الماعز ومحاربة طواحين الهواء.

هذه العلاقة المعطوبة هي حال الواجهة الثقافية والإعلامية والسياسية في سوريا الآن، الناتجة عن انحسار المخزون المعرفي السوري منذ سنوات عديدة بفعل العديد من العوامل أهمها القمع السياسي والانغلاق المعرفي عن العالم.

إذاً، لا إضافة حتماً في الثقافة السورية منذ ما قبل السبعينيات، وما تبقى من إرث مرحلة الاستقلال الأولى، على قلّته، بدأ بالنضوب مع تولي البعث حكم البلاد. فكيف لنخب أن تستثمر في مخزون معرفي ضحل؟

عادة ما يتم السجال بين نخب تقليدية ونخب شابة صاعدة، والمفارقة السورية هي أن نخبها التقليدية انهزمت منذ وقت طويل، أما النخب الشابة التي بشّرت بالتغيير والإصلاح فهي إما في القبر أو في المعتقلات.

هذا الفراغ الحاصل استغلته "نخب وهمية"، وهي عبارة عن مجموعة من أنصاف المواهب والرؤى، وشخصيات فيسبوكية أصبح كثير من السوريين يعتقدون بهم كزعامات ونخب وطنية. أي سمات جمعية لهذه "النخب الوهمية" معبرة ومميزة لسوريا روحياً أو فكرياً أو سياسياً أو حتى وجدانياً؟

غالباً ما تذكرني تلك "النخب الوهمية" بنظام قانوني لطالما شعرت بالتثاؤب وأنا أدرسه في مقررات القانون المدني بكلية الحقوق، يعرف هذا النظام بالتقادم المكتسب ويشترط مرور الزمن ليكتسب واضع اليد شيئاً ما، لم يكن حقه. هذه "النخب الوهمية" اكتسبت هذا الحضور المزيف فقط بسبب مرور الزمن وغياب النخب الحقيقية عن المشهد في سوريا.

ستظلّ الصورة مفككة وشديدة الهشاشة ولا تغيير فيها، إلا إذا كفّ الدونكيشوتيون عن محاربة طواحين الهواء أو إذا قرر سانشو الهارب من القمع والاستلاب والاستبداد والملاحقات من أجهزة أمن أو تنظيمات متشددة الخروج عن المشهد.

عدا عن ذلك ستبقى العلاقة التي تحكم هذه الفئة من السوريين محكومة بهذا المقطع من رواية سرفانتس: "أعترف يا مولاي بأنك على حق، وما أنا إلا حمار، لأنني لا أدرك بأنه لا يجوز الحديث عن الحبال في بيت رجل مشنوق".

 المصدر: جريدة العربي الجديد (نشرت في 17 كانون الأول 2014)