(سامر الأحمد)

كنت في الصف الثامن عندما دخل علينا أستاذ  مادة الاجتماعيات ونحن نتناقش فيما بيننا عن أصل تسمية مدينة القامشلي التي لا تبعد عن قريتنا سوى بضعة كيلومترات، فسارع الأستاذ الذي كان عضوا في قيادة الفرقة التابعة لحزب البعث في قريتنا وقال إن أصل التسمية يعود إلى قتال القبائل العربية على نبات القامش والذي هو نوع من القصب ينبت على ضفاف نهر الجغجغ وكل يقول القامش لي  حتى سميت المدينة بذلك وبدأ يتابع بالقول إن القامشلي جزء من الوطن العربي الذي يمتد من المحيط إلى الخليج ومن القامشلي إلى مقديشو وهكذا ترسخت في اذهاننا أن مدينتنا الصغيرة جزء من إرث قومي عروبي حاول حزب البعث التستر به لحكم سوريا لعدة عقود.

ولما انتقلت إلى مدينة القامشلي لإتمام دراستي الثانوية نظرا لعدم وجود ثانوية في قريتنا التقيت في المدينة للمرة الأولى بأصدقاء جدد من السريان والأرمن والأكراد والأيزيديين وهناك كوّنت عدة صداقات مع هؤلاء الشبان الذين لا أعرف عنهم أكثر مما يعرفون عني ومرة خلال إحدى النقاشات مع صديقي بهزاد القادم من ريف عامودا أخبرني أن مدينة قامشلو كما أسماها هي في الأصل قامت بجانب تلة أثرية بالقرب من عامودا تدعى تلة موزان ويعدها الأكراد حاضرة كردية قديمة وتسمى  حضارة ميديا وهي قبل الفتح الإسلامي بعدة قرون وأن الشعب الكردي يتطلع لإعادة أمجاد تلك الحضارة وتكون قامشلو عاصمتها، وبعد فترة التقيت بصديق سرياني فسألته عن أصل تسمية المدينة فحدثني عن أن أصل التسمية جاءت من تل زالين التاريخي والذي يقع شرقي القامشلي حالياً وبيت زالين في السريانية القديمة تعني مكان القصب ودعاها السريان القامشلية.

وهكذا راودتني الحيرة حول مدينتي وإلى أين انتمائي هل أصولها حثية فعلا كما يقول الأكراد أم سريانية أم أنها عربية بتفسير بعثي.

بعد الثورة انتقلت النقاشات من الاختلاف على أصل التسمية إلى الاختلاف على الوجود التاريخي للمنطقة ككل وباتت الدعوات تظهر علانية بين مختلف المكونات كل يحاول إثبات أحقية وجوده فيها، مع أن المدينة بحسب الباحث مهند الكاطع لم تكمل من عمرها قرنا من الزمن فقد     أنشأها الفرنسيون جنوب مدينة نصيبين عندما قاموا بإنشاء ثكنة للحامية الفرنسية عام 1925م وسبب التسمية يعود إلى القصب المنتشر على نهر الجغجغ والذي يدعى  [ القامش ] باللفظة العثمانية التركية (Kamış) ، اما “لي” فهي لاحقة تضاف الى اسماء الدول او المدن او الاماكن لتنسب الشيء الى المكان وتتبع قاعدة التوافق الصوتي فتمت تسمية المدينة من قبل الفرنسيين بالقامشلية وهناك نقش على مبنى البلدية وثّق فيه هذا الاسم .

بعد خمس سنوات على الثورة  وبعد عشرات الأسئلة التي طرحتها على من التقي من أهل المدينة وصلت إلى أن مكان المدينة كان مستنقعاً ينتشر فيه القصب حول نهر الجغجغ ولا يصلح للسكن، إضافة إلى أن المعلومات التاريخية تثبت أن هجمات القبائل البدوية المتواجدة على أطراف بلدية الشام من جهة الجزيرة أسهمت في منع استمرار أي حضارة في المنطقة ولم تنقطع تلك الهجمات حتى وجدت حكومة ذات سلطة بإدارة فرنسية في المنطقة، والمدينة تكونت سكانيا نتيجة هروب السريان وبعض قبائل الأكراد من جنوب شرق تركيا نتيجة الظلم الاتاتوركي ولم تجد ملجأ سوى الاستقرار بعيدا عن أعين السلطات التركية وبقرب الحامية الفرنسية وبنفس الفترة كانت القبائل العربية على أطراف الجزيرة تنتقل من مرحلة الرعي إلى الزراعة وبدأت تقترب من جبال طوروس لخصوبة الأرض هناك وهكذا تكونت المدن والقرى في معظم الجزيرة العليا بخليط سكاني متجانس عربي كردي سرياني متخذين شعارهم قول كارل ماركس في الديالكتيك أن ظروف وثقافة الإنسان تتغير بحسب تغيّر ظروف الإنتاج  وبالتالي حاجة البدو للانتقال من الرعي إلى الزراعة اوصلهم للمنطقة وحاجة السريان والاكراد للأمن كان سببا كذلك في وصولهم للمنطقة.

ونتيجة عجز كل المكونات في الجزيرة تقريباً عن إثبات وجود تاريخي يعتبر ذو قيمة قبل قرن من الآن، تلجأ اليوم هذه المكونات إلى فرض سياسية الامر الواقع وإثبات الموجودية قدر المتاح، فعند سيطرة تنظيم الدولة على معظم الجزيرة قبل عامين ادعى أنه حامي للمكون العربي وبدأ بتهجير السريان وتهديد الوجود الكردي في بعض المناطق، وبعد سيطرة وحدات حماية الشعب ادعت أنّها حامية للوجود الكردي في الجزيرة وبدأت تمارس التهجير بحق عشرات القرى العربية بحجة مناصرة الإرهاب، النظام من جهته ادعى أنه حامي الأقليات وجند جماعة من السريان تحت اسم السوتورو كمليشيا تدّعى الدفاع عن السريان في القامشلي وماحولها.

ولكنّ مجرى الأحداث أكد أن تنظيم الدولة هجّر العرب قبل غيرهم ممن رفضوا سياساته، وأن وحدات الحماية طردت كل من يعارضها من الأكراد خارج الجزيرة وبنفس الوقت ترك معظم السريان مدينة القامشلي هربا إلى اوربا بسبب كثرة التهديدات ولم يبق من السريان في المنطقة سوى بضعة آلاف.

القوى المتصارعة في الجزيرة اليوم كلها تحاول إثبات الأحقية التاريخية في المنطقة وكأننا نرجع إلى حروب ما قبل الحداثة حيث القوميات تسيطر على العقل الجمعي، ومازالت مدينتي ضائعة بين المتصارعين وتختلف تسميتها بحسب الغلبة بحيث لم أعد أعرف أن الأصل في الوجود في القامشلي يكون للإنسان كقيمة أصيلة أم لخلافات التسمية والتاريخ المجهول.

المصدر: جريدة كلنا سوريون